in

الانحياز التأكيدي: هل نحن سجناء اعتقاداتنا وآرائنا؟

يبدو أن البشر يحاولون جاهدين الحفاظ على اعتقاداتهم صحيحةً، حتى إن كانت الأدلة تشير إلى عكس ذلك، يُسمى هذا السلوك في علم النفس: الانحياز التأكيدي. 

عندما نترجم الحقائق لتتماشى مع اعتقاد موجود مسبقًا لدينا.

إن الانحياز التأكيدي هو نوع من *الانحياز المعرفي الذي يتضمن انتقاء الفرد المعلومات والحقائق التي تناسب اعتقادًا لديه وتجاهل تلك التي تعاكسه، أو ترجمة المعلومات لتناسب هذا الاعتقاد وتحوير عملية تذكرها كي تُعززه أيضًا، يؤدي هذا إلى نظرة غير موضوعية للظروف والمواقف، وبذلك نصبح سجناء اعتقاداتنا.

لنفترض مثلًا أن شخصًا ما يعتقد أن كل شخص أعسر اليد أكثر موهبةً وإبداعًا من الشخص أيمن اليد، الانحياز التأكيدي هو أن يعير انتباهًا أكبر للأدلة التي تناسب اعتقاده ويتجنب تلك التي تنقضه، سيحصي هذا الشخص كل فرد أعسر اليد ويمتلك موهبة خاصة ويتجنب إحصاء الفرد أعسر اليد والذي لا يمتلك موهبة أو الفرد أيمن اليد والذي يمتلك موهبة خاصة، وبهذا سيعزز هذا الشخص بشكل غير موضوعي اعتقاده الذي يمتلكه مسبقًا. 

نلاحظ الانحياز التأكيدي بشكل كبير لدى الأشخاص المصابين باضطرابات القلق، على سبيل المثال:  الشخص المنخفض تقديره لذاته يكون حساسًا جدًا من أن يُرفَض من قبل الآخرين، لهذا السبب سيراقب دائمًا ردات فعل الآخرين ليعرف ما لا يحبه الآخرين فيه، وسينحاز باتجاه المعلومات السلبية حول كيفية تفاعل ذلك الشخص معه وسيُحوِّل السلوكيات الطبيعية المعتدلة إلى مؤشرات سلبية. 

من أين تأتي اعتقاداتك وآراؤك؟

ربما تكون مثل العديد من الأشخاص الذين يعتقدون أن أفكارهم عقلانية ومنطقية ومحايدة، كحصيلة لسنوات من التجارب والخبرات والتحليل المنطقي للمعلومات التي لديك، إلا أننا جميعًا معرضون للانحياز التأكيدي من حين إلى آخر، وهذا يحصل حين ترتكز اعتقاداتنا وآرائنا على ترجمتنا للمعلومات وتركيزنا على تلك التي تعززها وتجاهل تلك التي تناقضها. 

كيف نترجم المعلومات؟

حتى عندما تُعطى الأدلة القوية سواء منطقية كانت أم عقلية، فإن الأشخاص الذين يمتلكون رؤية معينة حول قضية سيأتون بنتيجة واستنتاج معاكس، ولنأخذ هذا المثال: لنفترض أن بيانات أظهرت أن قانون حظر السلاح قد ساهم في تقليل معدل الجريمة في مدينة معينة، إن الشخص المساند لقانون حظر السلاح سيقول على الأغلب: «إن هذه البيانات تشجع على تطبيق قانون حظر السلاح بشكل موسع»، بينما سيقول شخص معارض للقانون: «إن هذا مجرد ارتباط وجميعنا نعلم أن العلماء يقولون أن الارتباط لا يعني السببية».

ولا يقتصر الأمر على التوصل إلى استنتاج معاكس أو مختلف بل أيضًا قد نطالب بأدلة أخرى ذات معايير محددة لكي نحصل على أدلة تتوافق مع اعتقادتنا، ويكون الفيصل هنا هو دراسة كل الأدلة بشكل موضوعي ومحايد للوصول إلى الحقيقة. 

كيف نتذكر المعلومات؟ 

يسمي البعض هذا النوع من الانحياز التذكر الانتقائي، يحدث عندما يتذكر الفرد المعلومات التي توافق اعتقاده فقط، مثلًا يتذكر الزوجان المتشاجران المواقف التي حصلت خلال علاقتهما بشكل مختلف، خذ هذه المحادثة مثالًا: 

  • الزوجة: لقد كنت فظًّا في حديثك معي أمس.
  • الزوج: لا أذكر أني كنتُ فظًّا معك، أنتِ فقط كنتِ تسألينني وأنا أجبتك، لم يكن لدي المزيد لأقوله.

ويبدو أن المعلومات التي توافق توقعاتنا تُحفظ في الذاكرة أقوى من تلك المعلومات التي تناقضها، أيضًا، فعملية حفظ المعلومات تعتمد على الحالة العاطفية، إن الذكريات التي تحدث خلال الوقت المشحون بالعواطف تُحفظ في الذاكرة أفضل من باقي الذكريات، وأثناء تذكر هذه الذكريات فنحن نبالغ بالمواقف التي حصلت خلالها. 

حالات ملاحظة من قبل علماء النفس

في كتابه بحث في علم النفس: طرائق وتصاميم  يعطينا سي. جيمس غودوين مثالًا رائعًا للانحياز التأكيدي وهو الحاسة السادسة:

«إن الأشخاص المؤمنين بالحاسة السادسة يؤمنون بأشياء كهذه: «عندما كنت أفكر بوالدتي، رنّ الهاتف وكانت هي المتصِل!» هم يتجاهلون تلك المرات العديدة التي (أ) كانوا يفكرون بأمهاتهم ولم تتصل أمهاتهم بهم، و(ب) لم يفكروا بأمهاتهم ولكن أمهاتهم اتصلن بهم.

وقد لا يدركون أشياء أخرى لها تأثير أيضًا، فلنفترض أنهم يتحدثون مع أمهاتهم كل أسبوعين، بالطبع سيزداد عدد مرات تفكيرهم بأمهاتهم مع قرب انتهاء مدة الأسبوعين هذه، وبذلك ستزداد نسبة حدوث الاتصال متزامنًا مع تفكيرهم بأمهاتهم!».

إن الانحياز التأكيدي قد يؤثر أيضًا على حياتنا المهنية، في كتابه «علم النفس»، يعطينا بيتر غراي هذا المثال حول كيفية تأثير الانحياز التأكيدي على تشخيص الطبيب: 

يلفت جروبمان انتباهنا حول نقطة معينة هي أن الانحياز التأكيدي من الممكن أن يتسبب -حسب الظروف- في تشخيص خاطىء من قبل الطبيب، إن الطبيب الذي يقفز إلى فرضية معينة لمرض المريض سيبدأ بطرح الأسئلة والبحث عن الأدلة التي تتوافق مع فرضيته وقد يتغاضى عن غير وعيٍ عن الأدلة التي لا تتوافق معها، في محاولة منه لإثبات صحة تشخيصه. 

يقترح جروبمان أن يتضمن التدريب الطبي دروسًا في المؤشرات السببية التي تجعل الأطباء قادرين على إدراك هذه الانحيازات، ويعتقد أن إدراك هذه الانحيازات سيسهم في تقليل الأخطاء الطبية. 

«إن الطبيب الماهر سيختبر فرضيته عن طريق التأكد من غياب الأدلة التي تناقض فرضيته».

الانحياز التأكيدي حقيقة أم اتهام؟

إن الانحياز التأكيدي ظاهرة حقيقية، وكأي ظاهرة حقيقية، فإن إثبات استخدامها يتطلب وجود أدلة، وفي غياب مثل هذه الأدلة، تصبح الاتهامات الموجهة إلى جهة ما باعتبارها «انحيازًا تأكيديًا» مجرد تكتيك خطابي بعدم شرعية الجهة المتهمة؛ وهجومًا لا يستند على أدلة، وشكلًا غير مشروع من أشكال الخطاب الفكري، غياب دليل على الانحياز التأكيدي يجعل الاتهام به إهانة لا غير، وتمامًا كما لا ندين قانونًا شخصًا ما بجريمة تستند إلى اتهامات فقط، لا يجوز لنا أن ندين شخصًا ما بتهمة «التحيز» في غياب الأدلة التي تشير إلى مثل هذا التحيز.

ماذا علينا فعله حيال الانحياز التأكيدي؟

لسوء الحظ ليس من السهل تجنب الانحياز التأكيدي دائمًا، لأنه قد يحصل من غير وعينا حتى أولئك الذين يعتقدون أنهم أصحاب عقول منفتحة، وأنهم يراقبون الحقائق قبل الوصول للنتائج- من الممكن أن يشكل الانحياز التأكيدي قراراتِهم وأفكارَهم وآراءَهم من غير أن يعوا ذلك. 

إذن ما الحل؟ 

 إذا أدركنا ماهية الانحياز التأكيدي وتقبلنا فكرة وجوده، سنتمكن من تمييزه في أثناء حدوثه وبالتالي تجنبه، وذلك عن طريق معرفة وجهة النظر المقابلة والأدلة المقدمة لدعمها.

 تعلّم أن تتحدى نفسك، خصوصًا في الأمور التي تشعر أنها مسلّمات، كلما شعرنا باليقين حيال فكرة ما، ازدادت احتمالية وجود الانحياز التأكيدي، لذا تأكد من معرفة ودراسة الأدلة الداعمة والمعاكسة لها في نفس الوقت، وتأكد من كون حكمك منطقيًا محايدًا . 

هذا لا يعني بالضرورة أن فكرتك خاطئة، لكنك قد لا تكون مدركًا تمامًا لم هي صحيحة بالضبط. 

قد لا تنهي هذه الطريقة الانحياز التأكيدي لدينا تمامًا، ولكن ستساعدنا  لإدراك متى يبدأ الانحياز التأكيدي بالعمل، وقد تساعدنا  في رؤية القضايا بشكل أفضل وبموضوعية أكبر والذي سيساهم في فهمٍ أعمق وأصدق لأفكارنا.

تعديل الصورة: نور عبدو.

*الانحياز المعرفي 

هو نمط من الانحراف في اتخاذ الأحكام يحدث في حالات معينة، ويؤدي إلى تشويه للإدراك الحسي أو حكم غير دقيق أو تفسير غير منطقي، أو ما يسمى عمومًا باللا عقلانية .

المصادر: verywellmindpsychcentralpsychologytoday

  • إعداد: مريم إسماعيل.
  • مراجعة: نادية حميدي.
  • تدقيق لغوي: علي قاسم.

بواسطة مريم إسماعيل

طالبة في كلية الطب. محبة للعلوم الحقيقية و أسعى للمساعدة في نشرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هل يمكن أن يتكون قوس قزح أبيض اللون؟

كيف تشرح البرمجة كائنية التوجه OOP لطفل في عمر 6 سنوات؟