عَرفَ عُلماء الفضاء أين اختبأت المادة المفقودة في الكون مُنذ 20 عامًا، فلماذا احتاجوا وقتًا طويلًا لإيجادها؟
قَد يمتَلِك عُلماء الفضاء أحيانًا تلميحًا عن وجودِ شيءٍ مُعيّن في الكون، وحتى تلميحًا عن مكانِه، لكن؛ قد يستغرقهم الأمرُ عُقودًا من الزمن لإثباته. أحَدُ الأمثلة على هذا الموضوع هو قضيّة المادّة المفقودة في الكونِ المعروف، وهُنا نقصِد مُحاولة العُلماء معرِفَة كُلّ المُكوّنات المادّية للكون. على ما يبدو أنّ قضيّة البحثِ عن المادّة قد انتَهت خلال الشهر المُنصرم. وإنّ دلّ هذا البحث على شيء، فهو يدل على العبقريّة العظيمة في البحث والاستكشاف لمدّة 20 عامًا.
اعتقدَ العُلماء والباحثون في ثمانينيات القرن العشرين أنّهم سيحصلونَ على مُشاهدات ومعلومات عن المادّة الذرّية، أو كما تُسمّى (الباريونات- Baryons). لاحقًا، عَرَفنا أنّ الباريونات لا تُشكِّل سوى 5% من الكون المُكتشف، والباقي هو ما يُعرف بالمادّة المُظلمة والطاقة المُظلِمة. ولتقريبِ المعلومة، إذا جَمّعَ العُلماء كُلّ شيءٍ في الكون- غالبًا المجرّات والنجوم- ستكون كُتلة الباريونات مُهملة تمامًا.
لكن؛ كَم كانت كُتلة المادّة المفقودة؟ وأين مِن المُمكن أن تتواجد؟ طُرحت هذه الأسئِلة في فترة التسعينات. في تِلك الفترة، أوجَد العالِم ديفيد تايتلر من جامعة كاليفورنيا طريقةً لقياس كمّية الديوتوريوم (وهو نظير الهيدروجين الثقيل) الموجودِ في الضوءِ القادم من الكوازار (وهي تجمّع الغازات ذات الحرارة العالية حول ثُقبٍ أسود؛ نَجم زائف) باستخدامِ جِهاز قياس الأطياف من تيليسكوب كيك في هاواي. ساهمَت البيانات التي جمعها تايتلر في فهم كمّية الباريونات المفقودة في الكون، حيث حُسِبت جميع النجوم والتجمّعات الغازيّة المرئية المُمكنة.
بعد تِلكَ النتائج، حدَثت موجة جَدَل واسِعة، وأصَرَّ تايتلر على صحّة نتائجه، والتي بَدَت في ذاك الوقت على أنّها أدلّة عكسيّة لما عَرَفهُ الجميع. ثُمّ أصدرَ أوسترايكر وسين، عالما الفيزياء الكونيّة من جامعة برينسيتون، نموذجًا كونيًّا يتَتَبَّع تاريخَ الكونِ منذُ البدايات وذلك في عام 1998. اقتَرَحَ النموذَج أنّ الباريونات المفقودة كانت على الأرجح تَنبَعِث مع الغاز ما بين المجرّات.
أكمَلَ تايتلر العمل على المسألة خلال السنين اللاحقة؛ تَصوّر مُشكلة المادّة المفقودة بأنّها جُزءٌ خفيّ من غازات مُنبعِثة ما بين المجرّات، ذات حرارة عالية جدًا. وأسماها الوسط الحار ما بين المجرّات (Warm-Hot Intergalactic Medium: WHIM).
استمرّ بعضُ عُلماء الفضاء بالشّكّ بوجود بعض النّجوم الباهتة بالقُرب من المجرّات، والتي يُمكن أن تكون قِطعةً مُهمّة من المادة المفقودة. لكن؛ بعد عِدّة عُقود من البحث، وُجِدَ أنّ كمّية الباريونات الموجودة في أكثر النجوم بُهتًا لا تتجاوزُ نسبة 20% مِن كُتلتها.
تطوّرَت أجهِزة القياس، وفي عام 2003، قاسَ مِسبار ويلكينسون كثافة الباريون كما كانت بعد 380 ألف عام من الانفجار العظيم. وُوجِدَ أنّها مُشابهة للكثافة التي قاسَتها النماذج الكونيّة السابقُ ذِكرُها. وبعد عِقدٍ كامل، أكّد مِسبار بلانك قيمةَ الكثافة.
بَعدَ الفشل في إيجاد المادّة المفقودة في النّجوم والمجرّات، وضّحَ مايكل شال، الفيزيائي في جامعة كولورادو، أنّ الاهتمام انتَقَل من البحثِ عنها إلى الغازات الموجودة ما بين المجرّات، وهو الوسط الموزّع على مليارات السنين الضوئية من الفضاء مُنخفض الكثافة في ما بين المجرّات. بَحثَ مايكل وفريقُهُ عن الـWHIM مِن خِلالِ دراسةِ تأثيرها على الضوءِ المُنبعِثِ من النجومِ الزائفة البعيدة. وحصلوا على نتائج تحتوي على ذرّات الهيدروجين والهيليوم وعناصِرَ ثقيلةً أُخرى. مِن خِلال البحثِ عن الجُزءِ المُنبَعث والمُمتَصّ من الغاز، سنجِدُ الغازَ نفسه.
إنّ عمليّة البحث عن الجُزء المُنبعث الواصِلِ إلى الأرض عمليةٌ صعبة نسبيًا، فهذه الإشعاعات يمنَعُها الغِلاف الجويّ الأرضيّ من الوصول، وبطريقةٍ أفضل، قام العُلماء بإطلاق أقمار صِناعية تحتوي على مُستشعِرات للأشعّة، بغية الحصول على هذه الجُزيئات ودراستها. وفي الغالب، يتوقّعُ العُلماء أنّ الباريونات وُجِدَت أثناء الانفجار الأعظم، أي في وجودِ الحرارة الشديدة للانفجار.
اتّخذَت الفِرَقُ البحثيّة الأُخرى مناحٍ أُخرى للبحث، من خلال البحث عن الباريونات بطريقة غير مُباشرة. لكن؛ وبسَبَبِ شِدّةِ بُهتانِ الـWHIM، وكثرة انتشار المادّة، مِن الصّعبِ إغلاق هذه القضيّة على أنّه تمّ حلُّها. ويُمكنُنا القول، أنّ الأحجيةَ الكونيّة ما تزال قيدَ البحث والاستقصاءِ والفهم، وسَنَجِدُ المزيد مِن العناصر والموادّ الغريبة علينا، ومِنها يُمكننا إكمالُ الأحجية ومحاولة حلّها.
المصدر: Quantamagazine
- ترجمة: محمد يامين.
- مراجعة: نديم الظاهر.
- تدقيق لغوي: نور عبدو.
تعليق واحد
ضع تعليقكOne Ping
Pingback:انتقال الحرارة #1: نبذة وتعريف - الفضائيون