لا تزال الإرادة الحرة تنتشر كمسألة فلسفية في كثير من الأحيان إلى الخطاب العام. على الرغم من أنه غالبًا ما تكون على سبيل الدعابة، فقد أثار الدمج بين علم النفس الشعبي والتحليل المنهجي شكوكًا حقيقيةً لدى العديد من الأشخاص حول كونهم متحكمين حقًا في أفعالهم. لقد ركز هذا النقاش إلى حد كبير على إمكانية الإرادة الحرة في عالم حتمي، والآثار المترتبة على ما نصنعه من حياتنا.
هل تشكك في الإرادة الحرة؟ أثبِتْ ذلك!
يقول الكاتب آرون رابينوفيتش (Aaron Rabinowitz): “شخصيًا، لقد ناقشتُ بكون الإرادة الحرة أمرًا مستحيلًا، إذ يعود كل شيء في الكون إلى الحظ، ولا يحدث أي تحت سيطرتنا بالطريقة القوية اللازمة لدعم حدسنا الطبيعي حول المسؤولية الأخلاقية. بدلًا من إعادة صياغة هذه الحجج، سأتحدث عن سؤالين مرتبطين لا يزالان يزعجانني، وهما:
- هل يمكنني حقًا (أنا أو أي شخص آخر) استيعاب الاعتقاد القائل بأنني لا أملك إرادة حرة؟
- هل يمكنني أن أثبت لنفسي وللآخرين أنني استوعبت وصدقت وجهة نظر أن “الإرادة ليست حرة”؟
لنبدأ بالسؤال الأول: ماذا يعني استيعاب اعتقاد مثل: “أفتقرُ إلى الإرادة الحرة” بدلًا من مجرد التكلم باستهزاء بهذا الاعتقاد؟ يشرح توماس ناجل Thomas Nagel، الذي أدين له بمعظم فهمي المحدود لهذه القضايا، ذلك من حيث وجهة النظر الذاتية مقابل وجهة النظر الموضوعية. وجهة النظر الشخصية هي التي نختبرها كل يوم، إذ يبلغ الناس عمومًا عن إحساسهم بالسيطرة على أفعالهم، في حين أن وجهة النظر الموضوعية، التي تسمى أحيانًا رؤية غير كاملة view from nowhere، هي تلك التي نحاول أحيانًا إقحام أنفسنا فيها عندما ننخرط في مجموعة من المشاريع مثل التحليل الأخلاقي أو العلمي. من وجهة النظر الموضوعية، فإن سلوكنا هو مجرد تأثيراتٍ أكثر في سلاسل السبب والنتيجة التي لا نهاية لها، والتي تمتد إلى حيث يقرر علماء الكونيات أنه بداية الكون.
يشكك ناجل في أنه يمكننا استبدال بوجهة النظر الذاتية بشكل كامل وجهةُ النظر الموضوعية عندما يتعلق الأمر بالإرادة الحرة، حتى عندما نقتنع فكريًا أكثر فأكثر بالدليل على أن وجهة النظر الموضوعية تعطي تفسيرًا كافيًا لسلوكنا. ويناقش بأن علم النفس لدينا سيتطلب دائمًا رؤية أنفسنا وبعض الآخرين على أنهم أكثر من مجرد “أجزاء من العالم”.
أؤيد تمامًا حجة ناجل الفلسفية ضد الإرادة الحرة، ولكنني أختلف معه حول الضرورة النفسية للإيمان بالإرادة الحرة. أعتقد أن ناجل يلغي باكرًا إمكانية أن نتمكن حقًا من الاستغناء عن تجربتنا الذاتية كفاعلين أحرار واستبدالها بالكامل بمنظور موضوعي بأننا مرتبطون بشكل كليًا بكون حتمي، ولكنه لم يقدم أي دليل على أن هذا مستحيل.
في المقابل، فإن سلالات من الطاوية Daoism والبوذية Buddhism، والتي تتفق على أن الإرادة الحرة وهمٌ، وتدعو إلى استيعاب الرؤية الموضوعية، تقدّم مجموعةً متنوعةً من الممارسات لتفكيك المنظور الذاتي وزراعة المنظور الموضوعي بدلًا عنه. بالطبع، يمكن أن ينكر ناجل أن أيًا من هذه الممارسات ناجحٌ نفسيًا، لكن ادعاءَه هذا تجريبي ويحتاج إلى دليل.
اسمحوا لي أن أنتقل بعد ذلك إلى السؤال الثاني ومشكلة الأدلة: ما الدليل الذي يمكن أن يدعم الادعاء بأنني استوعبت المنظور الموضوعي حقًا، ولم أعد أشعر بأنني أمتلك إرادة حرة؟ قد يبدو هذا سؤالًا سخيفًا؛ ألا ينبغي أن أكون قادرًا فقط على التأمل ومعرفة ما إذا كان الإيمان بالإرادة الحرة هو أحد مجموعة المعتقدات التي أؤمن بها؟ وكيف يختلف عن استيعاب الاعتقاد بأن 2 + 2 = 4؟
سبب الاختلاف هو أن الاستبطان (التأمل الذاتي) غير معصوم، وهو أكثر عرضةً للخطأ بالنسبة لبعض أنواع المعتقدات والتجارب أكثر من غيرها. إذا كان الاستبطان معصومًا عن الخطأ، فسيتوجّب علينا قبول “الإحساس” بالتصرف بحرية باعتباره كافيًا لإثبات أن لدينا إرادةً حرةً؛ إذا كنا سنحاول إنكار وجود الإرادة الحرة، فسنضطر إلى الاعتراف بأننا قد نكون مخطئين بشأن الكثير مما يحدث داخل أذهاننا.
في حالة الإرادة حرة، يكون عبء البرهان مرتفعًا إلى حدٍّ ما، نظرًا لأن المطالبة ترقى إلى إعادة كتابة أساسية لهذا الرأي. بالنظر إلى المخاطر المنخفضة والإجماع العام (بصرف النظر عن حروب تويتر)، يمكنني أن أستنتج بشكل معقول أن تجربتي في الاعتقاد 2 + 2 = 4 تتبع معتقداتي الفعلية حول هذا الموضوع. لا يمكن قول نفس الشيء بالنسبة لمثل هذا الادعاء المتنازع عليه بشدة والمعارض للحدس مثل رفض إرادتي الحرة. إذا ادعى شخصٌ ما تحقيق التنوير enlightenment، فستريد دليلًا جوهريًا على كلامه، ويشترك الاستيعاب الكامل للمنظور الموضوعي حول الإرادة الحرة في العديد من الصفات مع تفسيرات مختلفة للتنوير، مثل زيادة عدم الارتباط والاتزان.
سأكون صادقًا منذ البداية، عندما يتعلق الأمر بمحاولة إثبات أنني لم أعد أؤمن بإرادتي الحرة، فستكون الخيارات مروعةً حتى لو لم يكن عبء الإثبات عظيمًا. لدي تأملي غير المعصوم من الخطأ، ومثل الفيلسوف الإسكتلندي هيوم Hume، لا أجد فيه شيئًا يبدو لي وكأنه ذاتيٌّ مستقلٌ قادرٌ على الحفاظ على الإرادة الحرة. عندما أنظر إلى الداخل، أرى فوضى في القوى حتى أني بالكاد أفهم أن القليل جدًا من مشاعري تحت سيطرتي القوية. قد يكون هذا أنا فقط، إذ أن معظم الفلسفة هي ما يخبرنا به الفلاسفة عن أنفسهم، ولكنّ لدي انطباعًا بأن هذا ليس هو الحال هنا.
ولا أعتقد أن اليقظة أو العمل النفسي يستبدلان الفوضى بشكلٍ أساسيٍّ ويجعلان النظام والسيطرة محلها. الأمر أشبه بمساعدتي في أن أكون على ما يرام مع الواقع الذي أختبره. ليس لدي “الشعورٌ” بالحرية الذي يتحدث عنه بعض الناس عندما أسألهم عن تجاربهم حول هذه المسألة. ورغم ذلك، ليست لدي أيضًا طريقةٌ لإظهار أيٍّ من ذلك لأي شخص، وبالتالي لا يمكنني أن أتوقع أن يقتنع أيّ شخصٍ آخر بناءً على تقريري الذاتي فقط.
لا يساعد التحول من الاستبطان إلى السلوكيات التي يمكن ملاحظتها خارجيًا كثيرًا. حسب ما أرى، لا توجد علاقةٌ ضروريةٌ بين الإيمان أو عدم الإيمان بالإرادة الحرة وأيّ مجموعة من السلوكيات. إلى حدٍّ كبير يوفّر قول: “لا أؤمن بالإرادة الحرة” ضمانًا ضئيلًا لواقع معتقداتي الداخلي، حيث يتصرف بطرق مختلفة، كما أن قول: “لقد تصرفت بهذه الطريقة لأنني لا أؤمن بالإرادة الحرة” ليس ذا وزنٍ كبيرٍ عند أولئك الذين لم يقتنعوا بالفعل.
لا يعني هذا أن الإيمان أو عدم الإيمان بالإرادة الحرة عديم التأثير على سلوك الناس. بدلًا من ذلك، بل هو إقرارٌ بعدم وجود ارتباطٍ سهلٍ بين أيّ سلوكٍ واعتقادٍ معيّنٍ أو عدم الإيمان بالإرادة الحرة. يفيد بحثٌ ضخمٌ بارتباط المعتقدات التي أُبلِغ عنها حول الإرادة الحرة بمعتقداتٍ وسلوكياتٍ أخرى متنوعة. لقد مررت شخصيًا بتغيراتٍ في سلوكي حين عملت على استيعاب المنظور الموضوعي تجاه الإرادة الحرة، لكن لا يمكنني عزل تأثير هذا التحول المعتقد.
في أحسن الأحوال، يمكنني أن أخبر روايةً مقنعةً إلى حدٍّ ما حول كيف أن رفض الإيمان بالإرادة الحرة يؤدي إلى زيادة التواضع والرحمة، ثم أشير إلى السلوكيات التي يبدو أنها تجسد تلك القيم، ولكن لا توجد أي طريقة للتحقق من تلك الرواية خارجيًا. بالإضافة على ذلك، في عصرٍ يُعتبر فيه إنكار الإرادة الحرة أمرًا رائعًا في بعض الأوساط، قد يشعر الناس بالقلق بشكلٍ معقولٍ من أن روايتي أداءٌ فنيّ بقدر ما هي تحليلٌ صادقٌ لمعتقداتي وسلوكياتي.
لقد تُرِكت في موقفٍ محيّرٍ نوعًا ما. أعتقد بشدة أنني تمكنت من استيعاب المنظور الموضوعي للإرادة الحرة، بما يكفي لدرجة أنني نسيت منذ فترة طويلة شعور الإيمان بالإرادة الحرة. إذا كان هناك جزءٌ ما من اللاوعي لا يزال متمسكًا بوهم الإرادة الحرة، فلن أجده. بدون دليل على وجودها، فإن الادعاءات المستمرة بأنها موجودة وأنها لا تزال تتحكم في سلوكي بدأت تشعر وكأنها في غاية الغباء.
أجد التلميح المستمر مزعجًا تمامًا كما يقول المؤمنون لي إنني لست ملحدًا حقًا لأنني في أعماقي لا أزال أؤمن بالله سرًا. ورغم ذلك، فقد كان زملائي الفلاسفة يصرون بشكلٍ قاطعٍ على أنني ما زلت أعتقد أن لدي إرادة حرة وأنني أتكلم بكلمات على العكس. أشعر بالحيرة كيف يمكن أن يكون لديهم مثل هذا اليقين بشأن الحالة الداخلية لذهني، في حين أنني لا أستطيع حتى إدارة ذلك، على الرغم من نقص الحجة أو الأدلة.
في النهاية، هذه الاعتبارات هي مجرد تذكيرٍ آخر لي بمدى ضآلة ما يمكنني قوله بثقة عن فكري، وهو بالضبط ما يعزّز لدي كيف أنه لا يمكنني أن أكون الشخص المسؤول.”
- ترجمة: رأفت فياض.
- مراجعة: رند فتوح.