مررنا جميعًا بلحظات محرجة، إذ يحدث أمرٌ غير متوقعٍ، ما قد يسبب بعض التوتر الاجتماعي وعدم الارتياح الشخصي، وتود حقًا تجاوزه أو نسيان حدوثه؛ ولكن ماذا لو كنت عالم رياضيات دقيقًا وقد أُنكِرَ عالمك؟
لطالما كانت الرياضيات تدور حول السعي لفهم العالم من خلال المنطق والتعبير عنه بلغة رياضية محددة بدقة؛ إنه لأمر إرشادي وتعليمي وممتع حقًا أن تلاحظ الرياضيات عندما تتوقف (مؤقتًا) عن المنطق.
1- اكتشاف الأعداد غير الكسرية irrational numbers
تعود أصول الدقة الرياضية إلى اليونان القديمة، ولذلك بدأ الفكر الرياضي قريبًا من المعتقدات الدينية، وكانت الأرقام تُنسب إلى الخصائص الإلهية.
مدرسة فيثاغورس (The School of Pythagoras)؛ وهي فريق غامض من علماء الرياضيات الأوائل الذين أسهموا في تقدم المعرفة الرياضياتية، ومثل جميع الطوائف؛ كانت مبنيةً على بعض المعتقدات الأصولية. لقد ذُهِلوا من إمكانية تطبيق النسب على كل مشكلة عملية، واعتقدوا أن النِسَب (الأرقام البسيطة المقسومة على بعضها) إلهية، لأنها يمكن أن تفسر أي شيء يحدث في العالم.
وفقًا لذلك، يجب أن يُعبَّر عن كل ما يحدث في العالم كنسبة، أليس كذلك؟
الآن، تخيل دهشتهم عندما اكتشفوا الجذر التربيعي للعدد 2، أثناء تطبيق نظرية فيثاغورس المصاغة حديثًا؛ يتحدى هذا الرقم غير الكسري (irrational number) أو غير النسبي النظام العالمي كما تعبر عنه ألوهية النِسَب وشكّك في فلسفتهم بأكملها، إذ إنه لا يمكن التعبير عنه كنسبةٍ بين عددين.
خوفًا من عواقب هذا الاكتشاف الثوري؛ قرروا عدم إخبار أي شخص عنه، ويُقال أيضًا إنهم أغرقوا هيباسوس (Hippasus الذي اكتشف هذا العدد؛ تصرفٌ علميٌّ تمامًا! ألا تظن ذلك؟
2- اللانهاية Infinity
إن اكتشاف الأعداد غير الكسرية، الذي حمل السوء بالفعل، جعل الإغريق أمام اكتشاف أكثر رعبًا، ألا وهو اللانهاية infinity؛ تتميز الأرقام غير الكسرية بوجود عددٍ لا حصرَ له من الأرقام العشرية، ولذلك كان على الإغريق أن يفسروا كيفية إنشاء سلسلة لا تنتهي من الأرقام. يصعب فهم فكرة اللانهاية اليوم، ناهيك عن العصر الذي كان فيه الدين مرتبطًا بالعلم، ولا ينبغي أن يتحدى الإيمان الرياضي فهمنا للإله. لذا؛ ماذا فعل اليونانيون؟ رفض الفلاسفة، مثل أرسطو (Aristotle) وأفلاطون (Plato)، فكرة اللانهاية المطلقة، وابتكر علماء الرياضيات طرائقَ مبتكرةً للتحايل على الحاجة إلى اللانهاية في الهندسة؛ فمثلًا طوّر أيودوكسوس الذي من كنيدوس (Eudoxus of Cnidus) طريقة الاستنفاد* (method of exhaustion) لحساب مساحة الأشكال. استمرت الحال كذلك حتى أواخر القرن السابع عشر عندما شجع نيوتن (Newton) ولايبنيز (Leibniz) على أخذ اللانهاية في الحساب من خلال استخدامهما لمتناهيات الصغر** (infinitesimals)، وقدم جون واليس (John Wallis) الرمز المعروف للانهاية في عام 1655.
*طريقة الاستنفاد هي تقنية استخدمها الإغريقيون الكلاسيكيون لحساب مساحات وأحجام الأشكال الهندسية، ولكن لم تستخدم حدودًا أو جداولَ، بل اعتمدت على المنطق انطلاقًا من البديهية التي تقول إنه يمكن جعل كمية أصغر بواسطة تنصيفها (أخذ النصف منها) لعدد محدود من المرات.
**متناهيات الصغر استُخدمت للتعبير عن تغيّرات بالغة الصغر بحيث أن متناهي الصغر هو عدد أصغر تمامًا من أي عدد موجب وأكبر من الصفر، استخدمها نيوتن لشرح إجراءاته في حساب للتفاضل والتكامل.
3- مفارقات زينون Zeno’s paradox
من المؤكد أن الإغريق ذهبوا إلى أقصى الحدود عندما تعلق الأمر بالمنطق الفلسفي.
ادّعى هيراكليتس (Heraclitus) أن كل شيء في العالم يتغير باستمرار، وأتى بعده بارمينيدس (Parmenides) الذي ادّعى أن لا شيء يتغير، ونتيجةً لذلك، فإن الحركة هي مجرد وهم، وبالتالي يكون استخدام الرياضيات لوصفها مستحيلًا، وذلك لما كانت لغة الحقيقة وفقًا لليونانيين.
إن زينون أحدُ طلاب بارمينيدس، وقد ابتكرَ سلسلةً من المفارقات (paradoxes) التي تهدف إلى إثبات لا منطقية الحركة؛ تقول المفارقة الأكثر شهرةً بينها (أخيل وسلحفاته – Achilles and his tortoise): يتسابق أخيل ضد سلحفاة، وبسبب كونها أبطأ بكثير فإنها تُمنَح ميزة بدء السباق قبله بـ 100 متر.
إذا افترضنا، من أجل تبسيط المسألة، أن سرعتي المتسابقين ثابتتان، وأن أخيل أسرع بعشر مرات من السلحفاة، يمكن القول إنه عندما يصل إلى النقطة التي تنطلق منها السلحفاة، سيجري 10 أمتار، ولذلك سيحاول اللحاق بها، وعندما يصل إلى هذه النقطة التالية، ستكون السلحفاة قد تحركت مترًا إضافيًا.
تقودنا هذه المسألة الحسابية البسيطة والواضحة إلى الاستنتاج المتناقض الآتي: لن يصل أخيل أبدًا إلى السلحفاة مهما كانت سرعته. مرحى يا زينو، لقد جعلتَ الحركة تبدو غير منطقية!
كان يُظَن أن مفارقات زينو موجودةٌ في عالم الميتافيزيقيا والفلاسفة المضطربين وعلماء الرياضيات على مر العصور؛ ولكن يمكن تفسيرها اليوم بحسابات التفاضل والتكامل، وهي أداة رياضية لم يمتلكها اليونانيون.
4- شريط موبيوس (Möbius strip)
اكتشف كلٌّ من العالمين الألمانيين أوغست فيرديناند موبيس August Ferdinand Möbius وجون بينديكت ليستينج Johann Benedict Listing بشكل مستقل خصائص شريط موبيوس المضحك Möbius strip في عام 1858، وهو سطح به جانب واحد فقط وحد واحد فقط، وغالبًا ما يُستخدم لإغراء طلاب الرياضيات الصغار.
يمكن صنعه بسهولة عن طريق أخذ شريط من الورق، ثم لفه ثم وصل طرفي الشريط.
نظرًا إلى كونه المثال الأول لسطح بدون اتجاه، فإنه لم يهز أسس الرياضيات مثلما فعلت الاكتشافات الأخرى في هذه القائمة، ومع ذلك فقد قدّم الكثير من التطبيقات العملية مثل الحزام المقاوم، وألهم علماء الرياضيات لابتكار الأسطح غير القابلة للتوجيه مثل زجاجة كلاين Klein bottle. (ربما أتى اسم هذا السطح من مصادفة مزدوجة: أطلق عليه مبتكره كلين اسم Fläche ويعني السطح بالألمانية، ويبدو مشابهًا لكلمة Flasche التي تعني الزجاجة. يبدو أن حقيقة أنه يشبه الزجاجة أيضًا حسم أمر إعادة التسمية).
*زجاجة كلاين هي سطح طوبولوجي لا يمكن إنشاؤه في الفضاء التقليدي ثلاثي الأبعاد، ويتألف من سطح مغلق أحادي الجانب (أي لا يوجد له داخل وخارج)، ويمكن تقسيمها إلى شريطي موبيس إذا قُطِعت بشكل مناسب.

5- مبرهنة كانتور لعدم إمكانية حصر الأرقام الحقيقية Cantor’s uncountability of real numbers
لطالما كان التعامل مع اللانهاية عائقًا بالفعل، أثبت كانتور Cantor في عام 1874 وجود أنواعٍ مختلفةٍ من اللانهاية؛ وأثبت على وجه الخصوص من خلال برهان عدم إمكانية حصر الأعداد الحقيقية، أن مجموعة الأعداد الحقيقية أكبر من مجموعة الأعداد الطبيعية غير المحدودة بالفعل.
في عام 1891، قدم أيضًا الحجة القطرية (diagonal argument)، وهي دليل ممتاز جدًّا لدرجة اعتمادها لاحقًا بمثابة أداة لإثبات عدم إمكانية حصر الأعداد الحقيقية من خلال استخدام مفارقة. أدت ملاحظته إلى ولادة نظرية الأعداد الأصلية (cardinal numbers)، وكذلك التناقضات التي تتناول السؤال: كم عدد اللانهايات التي يمكنك التعامل معها؟
6- مفارقة راسل Russell’s paradox
في عام 1901 اكتشف برتراند راسل (Bertrand Russell) نقطة ضعف في نظرية المجموعات لكانتور وفق التطور الذي كانت قد وصلت إليه في ذلك الوقت، ما أوصله إلى تناقض لا يمكن للعالم الرياضي أن يتجاوزه؛ وفقًا لهذه النظرية، يمكن أن يشكل أي تجمع من الأشياء مجموعة.
مثال على التناقض الذي كشفه راسل، والذي يُطلَق عليه أيضًا مفارقة الحلاق (Barber’s paradox)، ينص على ما يلي: تخيل مدينة فيها قاعدة خاصة، وهي أن كل رجل لا يحلق بنفسه يجب أن يحلق له حلاق المدينة؛ السؤال المحرج الذي يمكنك الإجابة عنه هو: من يحلق للحلاق؟
قاده هذا الاكتشاف إلى التشكيك في الأسس البسيطة لنظرية المجموعة السابقة وخلق نظرية جديدة، والتي كانت أكثر تعقيدًا من نظرية المجموعات حسب تسيرميلو-فرانكل (Zermelo-Fraenkel set theory) المقترحة لاحقًا، التي لم تصل إلى ما وصلت له نظرية راسل.
7- نظريات عدم الاكتمال لغودل Gödel’s incompleteness theorems
إذا بدت الأحداث السابقة وكأنها خلقت لحظاتٍ غير مريحةٍ إلى حدٍّ ما، فانتظر السلحفاة المحرجة التالية (وهذه أسوأ من السلحفاة في مفارقة أخيل).
نتحدث هنا عن القرن العشرين، إذ لم يرغب الناس في المعرفة فقط، بل أرادوا معرفة ما إذا كانت معرفة أمرٍ ما ممكنةً وإثبات ذلك؛ لسوء حظهم، وبسبب حاجة البشرية لفهم الكون، نشر غودل في عام 1931 نظريتين تعرفان باسم مبرهنات عدم الاكتمال (incompleteness theorems).
إن شرح الجوانب الفنية لهذه المبرهنات أمر صعب مثل الاقتراب من استنتاجاتها، كذلك أثبت غودل أنه وبالنظر إلى نظام متسق وكامل، مثل لغة علم الحساب، توجد عبارات صحيحة ولا يمكن إثباتها. أوضح حقيقة نظريته بهذه الجملة البسيطة المستوحاة من مفارقة الكاذب(liar’s paradox): “هذه العبارة الرياضية لا يمكن إثباتها”. إذا كان ذلك صحيحًا، فإن هذه العبارة صحيحة ولا يمكن إثباتها، أما إذا كان خاطئًا فيمكن إثبات العبارة، ما يتعارض مع الحجة الأصلية القائلة بأنه لا يمكن إثباته.
كانت هذه أخبارًا سيئةً جدًا للرياضيات؛ إذ حرمتها من وهجها المميز في شرح الحقيقة المطلقة، كما كانت أيضًا عودة رهيبة لبحث هيلبرت (Hilbert) للمعرفة، والذي عبّر عنه في تقريره: “يجب أن نعرف، سنعرف”.
8- نظرية عدم التعريف لتارسكي Tarski’s undefinability theorem
يبدو أن اليأس الذي خلقه غودل (Gödel) قد ألهمَ تارسكي (Tarski)، ففي عام 1936 قدم برهانًا على مشكلة عدم قابلية التعريف (undefinability problem).
على الرغم من كون الملاحظات التي قدمها تارسكي موجودة أيضًا في عمل غودل؛ ولكن لعمل تارسكي تأثيرٌ فلسفي أكثر عمقًا، إذ خَلُص إلى استنتاجٍ عام يقول إنه لا يمكن للغة تعريف الحقيقة في حد ذاتها؛ على الرغم من أهمية هذه المحدودية، لكن تارسكي يقترح أن استخدام لغة تعريفية (Meta–language) قوية أمرٌ كافٍ لتعريف الحقيقة بلغة أبسط.
الآن، قد يعتقد شخص عادي أن ذلك يحل المشكلة، لكن بالنسبة لعالم رياضيات يبحث عن “لغة واحدة تحكم الجميع”، فهذا ليس مريحًا.
9- مسألة التوقف The halting problem
حاول آلان تورنغ (Alan Turing) معالجة مسألة اتخاذ القرار (decision problem) التي تتعامل مع إيجاد خوارزمية يمكنها الإجابة عما إذا كانت العبارة صحيحة أم لا؛ من أجل معالجة هذه المسألة ذات المفهوم البسيط ولكن صعبة الحل، أعاد صياغتها في صيغة “مسألة التوقف” halting problem التي تنص على: هل توجد آلة يمكنها إخبارك فيما إذا كان البرنامج سيتوقف عند مشكلة معينة؟
يَعني توقفُ البرنامج أنه لن يُكرَّر تنفيذه إلى الأبد، ولكن كيف تثبت عدم جدوى آلة تعرف عنها قليلًا فقط؟ هذا هو المكان الذي تنشأ منه المفارقات.
بدأ آلان تورنغ بافتراض وجود آلة تقدم برنامج إدخال ومسألة تجيب على سؤال ما إذا كانت ستتوقف أم لا، ثم وسّع هذه الآلة عن طريق حلقة تكرارية تعيد المخرجات مرة أخرى إلى الآلة إذا كانت الإجابة : نعم، وتتوقف إذا كانت الإجابة: لا.
فهل ستوقف الآلة المتوسعة عند مسألة التوقف؟ إجابة آلان هي: إذا كانت الإجابة نعم فلن تتوقف، وإذا كانت الإجابة لا فعندها نعم تتوقف! وهذا ما يبدو أخبارًا سيئةً للمنطق.
10- نظرية لا غداء مجاني The No Free Lunch Theorem
كان الانتقال إلى القرن الحادي والعشرين يعني الانتقال من الرياضيات البحتة (pure) شبه الفلسفية إلى المجالات التطبيقية مثل الإحصاء (statistics) ومسائل الأَمْثَلَة (optimization).
إذا كنت تظن نفسك محبًّا للأَمْثَلَة، ألا تعتقد أن هذا سيجعلك شخصًا مثاليًا؟ ألا يرغب الشخص المثالي في إيجاد الطريقة المثلى لجعل الأشياء بالشكل الأمثل؟
يبدو أن ديفيد وولبرت (David Wolpert) وويليام ماكريدي (William Macready) قد شعرا بهذه الحاجة وتوصلا إلى إجابة، ولكنها لم تكن مشجعةً أبدًا؛ وفقًا لنظرية: “لا غداء مجاني من أجل الأَمْثَلَة ” التي نُشرت في عام 1997، فإن “ستكون أي خوارزميتي أمثلة متكافئتَين عند حساب متوسط أدائهما عبر جميع المسائل المحتملة”.
قد يكون هذا محزنًا، لا يعني أن الأَمْثَلَة غير ذات جدوى، ولكن لن نجد الطريقة المثلى بشكل عام للقيام بذلك.
جعلت هذه اللحظات العالَم الرياضي يشعر بالحرج، وهو مصطلح خفيف لمشاعر اليأس والفوضى التي يختبرها العلماء عندما يتوقف الكون عن إعطاء معنًى، لكن الصدمة هي السبيل لدفع العلم إلى الأمام.
شُكِّلت الحقول الرياضية، وحصلنا على آلة تورينج Turing Machine، وأسطح رائعة المظهر، والأهم من ذلك، القدرة على إعادة اختبار إدراكنا وتكييف أدواتنا وفقًا لذلك.
ساعدتنا لحظات التساؤل هذه على التطور فكريًا.
باستثناء مبرهنات عدم الاكتمال incompleteness theorems، فقد كانت هذه فقط مدمرة.
- ترجمة: رأفت فياض.
- مراجعة: نور عبدو.