تبدو لنا بعض العادات الحياتيّة التي اكتسبها الإنسان على مرّ الأزمنة منطقيّةً ومعقولة، إلى درجة تجعلنا لا نفكّر في ماهيّتها ولا أسباب ممارستها. من ذلك، قليلاً ما نتساءل عن سبب مصاحبة الأغاني الصّاخبة للحفلات الضّخمة مثلاً، أو تفضيلنا للمعزوفات الكلاسيكيّة عندما نقوم بما يحتاج للتّركيز كالمذاكرة، أو حتّى تشغيل الموسيقا ذات الإيقاع القويّ المنتظم لدى ممارسة الرّياضة.
لكن؛ ماهي الأسباب المنطقيّة لهذه الاختيارات؟
قد يكون الأمر سهلاً بعض الشّيء عندما يتعلّق بمسائل أكثر شيوعاً؛ الأكل مثلاً. فهنا، سنجد العديد من أخصّائيّي التّغذية الذين لن يبخلوا بتقديم نصائحهم عن الأهمّية الكبرى التي تجعل الغلال والخضروات تتصدّر قائمة المأكولات المفيدة للصّحّة؛ بفضل نشويّاتها الطّبيعيّة التي تمدّ الجسم بالطّاقة، وأليافها التي تساهم بشكل كبير في بناء وتقوية أعضائه.
إلاّ أنّ نفس الإجابات المدعّمة بتحليل علميّ دقيق ضلّت غائبة لزمن طويل، جعلتنا نعزو فوائد الموسيقا الجانبيّة إلى ما يسمّى بـ“تأثير موزارت”.
ظهر هذا المصطلح خلال العقد الأخير من القرن المنصرم على يد فرانسز روشر (Frances Rauscher)، إثر قيامه باقتراح مقطوعات الموسيقار الشّهير موزارت على مجموعة من الطّلبة يوميّا ولمدّة عشر دقائق، ليكتشف فيما بعد أنّ أفراد هذه المجموعة أحرزوا المزيد من التّفوّق في اجتياز مادّة الرّياضيّات مقارنةً بغيرهم، مع العلم بأنّ كلتا المجموعتين كانتا لديهما نفس العلامات الدراسية قبل التّجربة.
ومن ثَمّ، أطلق على ذلك التّأثير الذي تحدثه لدينا نغمات الموسيقا تسمية تأثير موزارت، لكن دون أن يجرؤ على تفسيره؛ إذ لم يكن العلماء قد توصلوا حتى ذلك الوقت إلى أسبابه بشكل علميّ.
إلاّ أنّ الأمر تغيّر منذ أن طُوِّر علم الكيمياء العصبيّة (Neurochemistry)، والذي يُعنى بدراسة الجهاز العصبيّ عن طريق علم الكيمياء، بعد أن كان حكراً على علماء التّشريح. إذّاك، اكتشف الإنسان مكوّنات هذا الجهاز الحسّاس في الجسم البشريّ، والمتكوّن أساساً من الخلايا العصبيّة، التي تتواصل فيما بينها عن طريق الوسطاء الكيميائيّين (Chemical mediators)، والتي ترسلهم وتلتقطم على مستوى التشابكات العصبية Synapses.
بنذه الطّريقة، تقوم هذه الخلايا بتوجيه أحاسيسنا ومشاعرنا، وحتّى تفكيرنا وحركاتنا الإراديّة منها واللاإراديّة من خلال تحديد نوعيّة الوسطاء الكيميائيّين التي تفرزهم.
وهنا، يأتي دور الموسيقا في تحفيز عمليّة صنع هؤلاء الوسطاء وحتّى اختيارهم، وهو ما أكّدته عدة دراسات، منها دراسة حديثة أجراها مستشفى الأطفال ببوسطن كان مفادها التّأثير الإيجابيّ للموسيقا على كفاءة الدّماغ.
وقد أُثبِتت هذه النّظريّة إثر مقارنة مجموعتين من البشر، واظب أفراد الأولى منها على الاستماع للألحان والتدرب على العزف على إحدى الآلات الموسيقية لمدة لا تقل عن عامين، في حين لم تكن هذه العادة ضمن نشاط أفراد المجموعة الثّانية.
إذّاك، أثبتت نتائج التّصوير بالرّنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أنّ نشاط الأجزاء الثّلاثة التّابعة للقشرة الجبهيّة يكون أوفر حظاً لدى الأطفال الذين اعتادوا على سماع وعزف الموسيقا أثناء يومهم، مع العلم بأنّ هذه المنطقة من الدّماغ هي المسؤولة عن الوظائف التّنفيذيّة والحركيّة في الجسم.
على الصّعيد الكيميائيّ، يتعدد الوسطاء الذين نجدهم في التشابكات العصبيّة، نذكر منهم: الدوبامين (Dopamine) والأفيون (Opioid).
أولاً الدوبامين:
تقوم الخلايا العصبيّة الموجودة بالدّماغ بصناعة هذا الجزيء العضوي للتّحكّم في مشاعر كلّ من التّحفيز والمكافأة والمتعة، لينتشر بعد ذلك في كلّ أنحاء الجسم بكمّيات ضئيلة، لكن كافية لإحداث التّأثير المطلوب.
ويتزامن هذا عادةً مع تأدية الأفعال التي تحتاج إلى حدّ أدنى من التّفكير والانتباه، أو القيام بالأشياء المحبّبة، كتناول الوجبة المفضّلة أو الاستجمام على الشّاطئ. كما ثبتت علاقة الاستماع إلى بعض الأنواع من الألحان مع إفراز الدّوبامين، كألحان الجاز والمقطوعات الكلاسيكيّة. الجدير بالذّكر أنّ بعض الأطعمة تمنح التّأثير ذاته، لاحتوائها على الأحماض الأمينيّة التي تدخل في تركيب الدّوبامين، كالموز والجبن.
كيف يحصل الجسم على الدوبامين؟
يستخلص الدماغ (جزيء التيروسين Tyrosine) من الأفعال التي تجلب لنا السعادة كتناول قطعة من البيتزا أو الاستماع للموسيقا المفضلة؛ وهو أحد الأحماض الأمينية المستخدمة في بناء البروتينات، فيما بعد تقوم مجموعات التيروسين ببناء نوع من النواقل العصبية الكيميائية تعرف اختصاراً بـ (L-DOPA)، والتي تعمل بدروها كوحدات بنائية لإنتاج الدوبامين.
ومن ثَمَّ ينتقل الدوبامين الناتج عبر أحد التشابكات العصبية synapse ليصل من خلاله إلى مستقبلات الدوبامين (dopamine receptors) الموجودة على جدران الخلايا المستهدفة ( receiving cell)، وبذلك يُحدِث تأثيراته ليجلب للشخص الشعور بالسعادة والمتعة. (كما يظهر في الشكل 1)

(شكل 1)
ثانياً الأفيون:
يضطلع هذا الوسيط بمهمّة تخفيف التّوتّر والألم لدى إفرازه الذي يأتي عن طريق تحفيز المستقبلات العصبيّة الثلاثة المسؤولة عنه في الدّماغ والجهاز العصبي. ويأتي هذا التّأثير في المعتاد إثر القيام بمجهود شاقّ أو غير محبّب للنّفس، كأداء التّمارين الرّياضيّة العنيفة أو اجتياز الاختبارات؛ وذلك لتخفيف الشّعور بالتّوتّر أو الألم النّاتج عن مثل هذه الممارسات.
وإذ لا يقوم الجسم بإنتاج ما يكفي لتخطّي هذه المراحل، يقوم خبيرو التّخدير بمحاكاة عمليّة صنعه، وذلك لحقنه في شرايين المرضى للتّخفيف عن آلامهم. بنفس الطّريقة، تقوم بعض الألوان الموسيقيّة بالتّأثير على الدّماغ لصنع الأفيون، وهو ما يشعرنا بالرّاحة والإسترخاء عندها.
يُظهر الشكل التوضيحي التالي (شكل 2) عملية تخفيف الألم التي يقوم بها الجسم عن طريق انتقال المواد الأفيونية (opioids) إلى مستقبلاتها في الجزء الخلفي من المُخّ.

(شكل 2)
المصادر:
- إعداد: طه ياسين بن إبراهيم .
- مراجعة: سارة تركي .
- تدقيق لغوي: نور عبدو.