in

ما الذي يخبرنا به التشريح المقارن عن التطور؟

يُعرف التشريح المقارن بأنّه دراسة البِنَى الجسمانية للأنواع المختلفة من الكائنات الحية والمقارنة بينها من أجل الوصول لفهمٍ أكبر للتغيرات التي حدثت في تلك البِنَى خلال تمايزها عن بعضها البعض وعن سلَفها المشترَك.

ما الذي يخبرنا به التشريح المقارن عن التطور؟

كانت البداية عام 1555 مع العالم الفرنسي الموسوعي بيير بيلون وكتابه التاريخ الطبيعي للطيور L’histoire de la nature des oiseaux الذي شرح فيه ملاحظاته حول التشابهات المذهلة الجذيرة بالملاحظة بين الهياكل العظمية للأنواع المختلفة للطيور وبين هيكل الإنسان، وكيف تبدو العظام متناظرةً homologous في كلا الهيكلين بشكلٍ مدهش.

رسمٌ لبيلون يوضّح المقارنة بين الهيكلين العظميين للإنسان والطيور، وكيف تتناظر العظام فيهما.

كان التشريح المقارن الفكرةَ التي ألهمت كلّ علماء الأحياء الكبار التّالين لبيلون لتتبّع تلك التشابهات والتناظرات والبحث عن تفسيرٍ لها، مروراً بجورج دي بوفون وجورج كوفير وغيرهما الكثيرين، وصولاً إلى تشارلز داروين الذي قدّم تفسيراً لهذا التناظر وللمعلومات التي يقدّمها لنا السجل الأحفوري والأنواع الداجنة عبر التطور بالاِنتخاب الطبيعي. واليوم وبعد مرور أكثر من قرن ونصف على تقديمه لهذا الطرح الرائع، تراكمت لدينا معارفٌ هائلة في هذا المجال وأصبحنا أكثر فهماً لآليات حدوث تلك التناظرات.

عند وجود سلفٍ مشترك تنحدر منه تفرعات متعددة للأنواع فإنّ هذه الأنواع تراكم، جيلاً خلف جيل، طفراتٍ جينية تسبب تعديلات طفيفة في النمط الظاهري Phenotype تزداد تدريجيا. يساعد الانتخاب الطبيعي على بقاء الطفرات المفيدة لتلك الأنواع للبقاء في بيئاتها وتوريث صفاتها لنسلها، بينما تنقرض الأنواع صاحبة التعديلات التي لا تساعدها على البقاء، أو حتى السلف نفسه إذا لم يستطع النجاة من تغير الظروف والضغوط البيئية. كنتيجةٍ لذلك نحصل على تنوعٍ كبير في الأشكال والصفات، ولكن عند مقارنتها تشريحياً نجد أنّها متناظرة، وذلك لأنّها كلّها مجرّد تعديلاتٍ في شكل أولي كان لدى السلف المشترَك لكلّ هذه الأنواع، وتعرَف هذه العملية بالتَشَعُّب التَكَيُّفي adaptive radiation.

تساعدنا تلك الدراسات المقارنة على فهمٍ أوسع لقَرابة الأنواع ببعضها البعض، وعلى رسم خرائط القرابة لهذه الأنواع وفهم تفرّعاتها من بعضها البعض بشكلٍ أفضل، ويتّضح ذلك من الأمثلة التالية:

عند مقارنة عظام الطّرف الأمامي لجميع الفقاريات التي تعيش على اليابسة سنجدها جميعاً متناظرة بشكل يستحيل تفسيره إلا بكونها تعود جميعها إلى سلفٍ مشترك وأنّها قد أدخلت تعديلاتٍ كثيرة مع الوقت على الشكل الأولي، حيث شملت هذه التعديلات أطوال العظام المختلفة، النسب بينها وبين بعضها البعض، أماكن تموضع العضلات على هذه العظام، تباعد الأصابع عن بعضها البعض أو اندماجها معاً، الزوائد الجلدية بين هذه الأصابع وغيرها من الصفات التي أعطانا كلّ تغير في أيٍّ منها احتمالاتٍ لانهائية لظهور صفات جديدة.

في الواقع تنتمي جميعها لسلفٍ مشترك ينتمي لرباعيات الأطراف الأولية Tetrapods عاش قبل حوالي 350 مليون سنة، والتي كانت أوّل الفقاريات التي دبّت على اليابسة منحدرةً من نسل الأسماك وورثت عنها بدايات تلك الأطراف، ولكن ماذا عن الحيتان؟ ألا يعتبر كونها ثديياتٍ بَحرية أمراً يكسر هذه القاعدة؟ في الواقع، الطرف الأمامي للحيتان لا يختلف كثيراً عن الطرف الأمامي لأيّ نوع فقاري يعيش على اليابسة، ذلك لأنّها تنحدر من نسل حيواناتٍ كانت تعيش على اليابسة قبل أن تنتقل للبيئة البحرية قبل حوالي 50 مليون عام، أي أنّنا هنا رأينا بأعيننا صلة القرابة الواضحة بين الحيتان وأقاربها على اليابسة بشكلٍ يتكامل مع المعلومات السابقة لدينا من السجل الأحفوري والDNA.

مخطط يوضح التناظر المدهش في شكل عظام الطرف الأمامي بين فقاريات برية من مجموعات مختلفة.
رسم يوضح التناظر بين هيكلي حوت باليني و الطائر الطنان.

إذا تأملت مسار العصب الحائر Vagus لديك ستواجه أمراً مثيراً للاهتمام، ينبع ذلك العصب الضخم من النخاع المستطيل بالمخ ليتفرع إلى عدة تفرعاتٍ تصل إلى أماكن مختلفة بالرقبة والصدر والبطن، ومن هذه التفرعات العصبين الحنجريّين Laryngeal nerves الأيمن و الأيسر.

مسار هذين الفرعين بالذات ظلّ لفترةٍ طويلة محلّ تساؤل، فعلى الرغم من قرب الحنجرة من المخ إلا أنّ العصبين اللذين يغذيانها ينبعان من الأسفل، فيتفرع الأيمن من العصب الحائر من أسفل الشريان تحت الترقوي الأيمن بالصدر ليعود إلى الأعلى، بينما يقطع الأيسر مسافةً أطول قليلاً ماراً من أسفل القوس الأورطي Aortic arch ليعود متّجهاً إلى الحنجرة قاطعين مسافةً تقدَّر بأضعاف المسافة التي من المفترض أن يقطعاها.

ما تفسير ذلك؟ وهل هذا الأمر لدى الإنسان فقط؟ دعنا ننظر لمسار ذلك العصب لدى الحيوانات الأخرى، لنختر حيواناً ذا رقبةٍ أطول، ماذا عن الزرافة؟ نعم، ستتفاجأ عندما ترى مسار العصب الحنجري لدى الزرافة وهو يقطع تلك المسافة الطويلة للغاية نزولاً من الرقبة ثمّ مروراً عبر الفرع الأيمن من أسفل الشريان تحت الترقوي الأيمن، والأيسر من أسفل القوس الأورطي ليعودا ويقطعا تلك المسافة من جديد عبر الرقبة ليصلا إلى الحنجرة قاطعين مسافةً تقدَّر بأكثر من6 متر على الرغم من كون تلك الأخيرة على مسافة لا تتجاوز 5 سنتيمترات على الأكثر عن منبع العصب.

كيف حدث ذلك في كل من الإنسان و الزرافة؟ سنجد الإجابة كلّما تعمقنا قديماً في الأسلاف المشترَكة لنصل إلى الأسماك، فالأسماك لا رقبة لها، والمخ والقلب أكثر قرباً لبعضهما البعض مقارنةً بباقي الفقاريات، وينتهي نفس العصب لديها بالزوج رقم 2 من الخياشيم القريب للغاية من القلب والذي أصبح لدى أبناء عمومتها من الثدييات حنجرة بدلاً منه.

إذن فقد كان الأمر لدى الأسماك أكثر بساطة حيث كان يقطع العصب مسافةً بسيطة للغاية ليأخذ قوساً صغيراً في طريقه لزوج الخياشيم رقم 2، ولكن على مدار مئات الملايين من السنوات تراكمت التغيرات في هذا الشكل ليستطيل العصب شيئاً فشيئاً حتى أصبح بالشكل العجيب الذي نراه الآن لدى جميع الفقاريات، إنّه تذكارٌ تركه لنا أسلافنا الأسماك.

العصبان الحنجريان الأيمن والأيسر لدى الإنسان.
رسم يوضح المسار الطويل للعصب الحنجري لدى الزرافة.
مقارنة بين مسار العصبيين الحنجريين لدى الإنسان والسمكة.

يشرح لنا الفيديو التالي تشريح العصب الحنجري للزرافة وكيف استطال من أسلافها الأسماك حتى وصل لهذا الشكل:

ربما تتعجب إن أخبرتك أنّك في مرحلةٍ سابقة من حياتك كان لديك تكوينات تشبه الخياشيم، نعم أتحدث عن حياتك أنت وليس أسلافك؛ كيف حدث ذلك؟ إذا قارنت بين مراحل تكون الأجنّة لدى المجموعات المختلفة من الفقاريات ستجدها في بداياتها شبه متطابقة، ثمّ تبدأ في التمايز في المراحل اللاحقة، حيث تظهر لدى أجنّة جميع الزواحف والطيور والثدييات شقوق طولية عند منطقة البلعوم تُعرف باسم الشقوق البلعومية Pharyngeal slits أو الشقوق الخيشومية Gill slits ، وتناظر بشكل تامّ الخياشيم لدى أجنّة كلٍّ من الأسماك والبرمائيات، إلا أنّها تختفي في المراحل اللاحقة بينما يكتمل نمو الخياشيم لدى كل من الأسماك والبرمائيات.

وقد كانت الأسماك اللافكية Agnatha (تحدثنا عنها في مقالنا السابق) التي ينحدر من نسلها جميع الفقاريات على وجه الأرض والتي عاشت قبل قرابة 500 مليون عام تستخدم خياشيمها البدائية في عمليتي التنفس والتقاط الغذاء العالق بالمياه، كما كان لديها أيضاً حبل ظهري Notochord يُعتبر عموداً فقرياً بدائياً يَظهر هو الآخر في أجنّة جميع الفقاريات قبل أن يأخذ مساره الطبيعي مع تكون الجنين بتحوّله إلى سلسلةٍ عظمية أو غضروفية أو بقائه كحبلٍ ظهري كما هو. إنّه لمن المدهش حقاً رؤية تاريخنا التطوري يطلّ برأسه أثناء عملية تشكلنا ونحن أجنّة، إنّهما تذكاران آخران من أسلافنا البعيدين للغاية.

  • إعداد: محمد علي.
  • تدقيق لغوي: جيهان المحمدي.

بواسطة محمد علي

تعليق واحد

ضع تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ما الذي يخبرنا به DNA عن التطور؟

ما هي أشهر الخرافات الشائعة عن النوم؟ وما هي الحقيقة خلفها؟