كيف حصلت الزرافة على تلك الرقبة الطويلة؟ ولماذا تمتاز الثعابين بهذا الطول؟ كانت تلك الأسئلة تدور في رأس العلماء قديمًا. ولكن الآن أصبحت لدينا فكرةٌ أفضل عن السبب بفضل تقنيات التتابع الجينيّ التي ساعدت العلماء على رسم الجينوم الحيواني. تلك التقنيات سمحت بمقارنة الـDNA بين مختلف الحيوانات واكتشاف طريقة تطوّر كل حيوان عن الآخر بطريقةٍ فريدةٍ.
ولكن هناك بعض الحالات الغامضة التي واجهها العلماء. بعض الجينات الضرورية للحياة مفقودةٌ في بعض الحيوانات، جيناتٌ بدونها لا يستطيع الكائن البقاء على قيد الحياة، أطلقوا على تلك الجينات المفقودة اسم “Dark DNA”، وجود تلك الجينات قادرٌ على تغيير ما نعتقده حول التطور.
يقول الدكتور آدم هارغريفز، وهو باحث ما بعد الدكتوراه في جامعة اوكسفورد:
“واجهنا أنا وزملائي تلك الظاهرة عندما كنّا نتابع الجينوم الخاصّ بجرذ الرمال (Psammomys obesus)، وهو نوعٌ من اليربوع يعيش في الصحارى وكنّا نريد دراسة جيناته المسؤولة عن إنتاج الأنسولين، لمعرفة سبب كون ذلك الكائن أكثر عرضةً للإصابة بالسكري من النمط الثاني، ولكن عندما بحثنا عن جين يُسمّى Pdx1 الذي يتحكم في إفراز الأنسولين، وجدنا أنه كان مفقودًا، مع 87 جينًا آخر محيطٌ به. بعض الجينات المفقودة، ومن ضمنها Pdx1، أساسيةٌ وبدونها لا يستطيع الكائن الحي النجاة. أين هم إذًا؟”
ويتابع الدكتور هارغريفز:
“وجدنا في العديد من أنسجة جسم فأر الرمال منتجاتٍ كيميائيةٍ من المُفترض أن تكون قد أُفرِزت تعبيرًا عن وجود تلك الجينات المفقودة، ما يشير إلى أنّ تلك الجينات حاضرةٌ في مكانٍ ما في الجينوم، لكنّها مختبئةٌ”.
ويتابع تصريحاته بأنه يكثر تتابع الأسس الآزوتية في تلك الجينات وبخاصة الجوانين والسيتوزين. نحن نعلم أن كثرة تتابع الجوانين والسيتوزين في تتابع الجينوم يسبب مشاكلَ في الكشف عن تتابع الـ DNA، والذي يجعل تلك الجينات التي كنا نبحث عنها صعبة الإيجاد أكثر من احتمالها بأن تكون مفقودة
ولهذا السبب أُطلِق عليها Dark DNA كإشارةٍ للمادة المظلمة التي تشكل 25% تقريبًا من الكون ولكن يصعب علينا كشفها.
وعند دراسة الجينوم الخاص بفأر الرمال، وجدنا منطقةً بصفةٍ خاصّةٍ بها طفراتٌ كثيرةٌ، أكثر من جينوم باقي القوارض الأخرى، وتلك المنطقة المليئة بالطفرات يكثر بها تتابع الجوانين والسايتوزين، وتلك الطفرات المفرطة ستوقف الجين عن عمله، ولكن بطريقةٍ ما، لا تزال جينات فأر الرمال تؤدي دورها على الرغم من وجود تلك الطفرات.
هذا وقد وُجِد الـ Dark DNA سابقًا في الطيور، حيث وُجِد 274 جينًا مفقودًا من تتابع الجينوم الخاص بهم من ضمنهم الجين المسؤول عن إفراز هرمون (البتين- leptin)، وهو هرمونٌ يفرزه النسيج الشحمي المسؤول عن تنظيم الطاقة، لم يستطع العلماء إيجاد ذلك الجين لسنين، ومرةً أخرى تكثر في ذلك الجين تتابعات الجوانين والسايتوزين ومع ذلك فإن المواد التي ينتجها موجودةٌ في أنسجة جسم الطيور، على الرغم من أن تلك الجينات تبدو مفقودةً في تتابع الجينوم.
أغلب تعريفات التطور في المراجع تنص على أن التطور يحدث على مرحلتين، طفراتٌ يتبعها الانتخاب الطبيعي، تلك الطفرات عشوائيةٌ وشائعةٌ، والانتخاب الطبيعي هو الذي يحدد إن كانت تلك الطفرة سوف تستمر في باقي الأجيال أم لا.
ولكن بعض المناطق التي تشيع فيها الطفرات لديها فرصٌ أكبر للحصول على DNA يحتوي طفراتٍ أخرى فيها عن باقي أجزاء الـ DNA، وذلك يعني أن لتلك المناطق القدرة على توجيه التطور للكائن الحي في اتجاهٍ معينٍ، مما يعني أن الانتخاب الطبيعي ليس هو القوة الدافعة الوحيدة للتطور.
حتى الآن وعلى ما يبدو الـ Dark DNA حاضرٌ في نوعَين متميزَين ومتنوعَين من الحيوانات، ولكن لا يزال انتشاره الواسع غير واضحٍ، هل يمكن أن يحتوي الجينوم الخاص لكلّ الحيوانات على Dark DNA، وفي حال كان الجواب بـ (لا)، فلماذا اليرابيع والطيور فريدين جدًا من نوعهم.
وفي مثال جرذ الرمال، ربما هذه الطفرات هي التي جعلت ذلك الحيوان يتكيف مع ظروف الصحارى، وقد تكون حدثت بسرعةٍ، حتى لم يعد الانتخاب الطبيعي قادرًا على التصرف بسرعةٍ كافيةٍ لإزالة أيّ شيءٍ ضارٍ في الـ DNA، وإذا كان هذا صحيحًا، إذًا من المفترض أن الطفرات الضارة تمنع ذلك الحيوان من أي يعيش خارج بيئته الصحراوية التي تطورت جيناته لتسمح له بالعيش فيها.
من المؤكد أن يثير اكتشاف مثل هذه الظاهرة الغريبة تساؤلاتٍ حول كيفية تطور الجينوم، وما يمكن أن يكون قد غاب عن مشاريع تسلسل الجينوم الموجودة. ربما نحتاج إلى العودة وإلقاء نظرةٍ فاحصةٍ.
- ترجمة: بيتر ادوارد.
- مراجعة: يزن الحريري.
- تدقيق لغوي: رأفت فياض.