الطاعون: الجحيم على الأرض، المرض الذي كسح آسيا وأوروبا في العصور الوسطى متسببًّا بقتل 30-60% من سكان أوروبا في القرن الرابع عشر.
هذا المرض الذي جعل من الجحيم أكثر من مجرد فكرة, جعل منه واقع, واقع مخيف لا مفر منه.
هو ذاته الذي نراه مرتسمًا بهالة الموت الأسود في فن وموسيقى العصور التي عايشته, حيث يتجلى واضحًا في لوحة (انتصار الموت/عام 1448)
المعروضة في صقلية/ جنوب إيطاليا(palazzo Abatellis) وخير ممثل للطاعون هي صورة طبيب الطاعون بلابسه الخاص وهو عبارة عن رداء أسود طويل ثقيل مشمع, وقناع بنظارات على العينين ومنقار طويل مؤنف فيه فتحتين تؤمنان تنفس الطبيب, يُحشى القناع بعدة أنواع من الأعشاب والعطور لتخفيف رائحة التعفن المنبعثة من المريض والناجمة عن الأنسجة الميتة, بالإضافة إلى وظيفته في حماية الطبيب من العدوى, حيث كان يعتقد سابقًا أن المرض ينتقل عبر الهواء.
من هذه الأعشاب العنبر, المليسة, بلسم الليمون, بتلات الورد وغيرها.
وليكتمل الزي, كان الأطباء يحملون عصي طويلة تستخدم لتحريك المريض وفحصه من مسافة معينة, دون أن يضطر الطبيب للاقتراب كثيرًا.
الطاعون مرض جرثومي انتشر بشكل جائحات واسعة, بلغ أوروبا في أربعينات القرن الرابع عشر(1340), متسببًّا بقتل ما يقارب ال 25 مليون شخص.
أول جائحة موثقة بشكل جيد كانت جائحة “جوستينيان” نسبة إلى الامبراطور البيزنطي “جوستينيان” والتي بدأت عام 541 م وقتلت أكثر من 10.000 شخص يوميًّا في القسطنطينية (اسطنبول/تركيا حاليًّا) نسبة للمؤرخين القدماء.
الانتشار الواسع والسريع للمرض يوحي لنا بإمكانية انتقاله عن طريق الهواء (كما كان يعتقد سابقًا) ولكن الحقيقة غير ذلك، فطريقة انتقال الطاعون لم تكتشف إلا مؤخرًا في القرن التاسع عشر إثر تفشي المرض في الصين, حيث عزل الأطباء الصينيون إثر جائحة على هونغ كونغ عام 1894العامل المسبب هو جرثومة (yersinia pestis) اليرسينية الطاعونية.
وبعد بضع سنوات في الصين, لاحظ الأطباء أن الفئران المصابة باليرسينيا تبدي أعراض مشابهة بشكل كبير للطاعون لدى الإنسان، وأن ضحايا الطاعون غالبًا ما يوجد لديهم آثارًا لعضات البراغيث، يمكن لهذه البراغيث أن تتواجد في الفئران، الجمال، كلاب البراري، السناجب والأرانب ولكن أهمها وأخطرها على الإنسان هي تلك المنتقلة من الجرذان التي تعيش في المدن.
بعد أن تدخل اليرسينيا الجسم عليها أن تتكاثر لتؤمن ما يكفي من الجنود لاجتياح الجسم وإمراضه, ولكن لفعل ذلك عليها أولًا أن تتخلص من عدوها والذي هو جهاز المناعة, وهو دفاع الجسم الطبيعي المتمثل بالكريات البيض.
تقوم البكتريا بتحرير الذيفانات, وهي سموم خاصة تقضي على البالعات الكبيرة المسؤولة عن محاربة البكتريا والتهامها، هذه الضربة تؤمن للجرثومة إمكانية التكاثر لضمان زيادة العدد وإحداث المرض.


أشكال الطاعون
يوجد ثلاثة أشكال رئيسية للطاعون هي الشكل الدبلي، الشكل الخمجي الدموي والشكل الرئوي وذلك حسب الجزء المصاب من الجسد، الأعراض والعلامات تختلف وتتنوع باختلاف نمط الإصابة.
الطاعون الدبلي: (bubonic plague) وهو أشيع أشكال الطاعون, يتمثل بتضخم في العقد اللمفية بحجم بيضة الدجاج تقريبًا, متوضعًا في العنق والإبط, تظهر خلال أسبوع من عضة البرغوث.
الطاعون الخمجي الدموي:(Septicemic plague) وهو الشكل المتطور من الطاعون الدبلي إذا لم يتم العلاج المناسب, حيث ينتشر الجرثوم في الدم مسببًّا حمى، إسهالات، إقياءات وبقع سوداء على الجلد بسبب النزوف الحاصلة تحته, كما يحدث الغانغرين وهو تموت الأنسجة واكتسابها للون الأسود والذي غالبًا ما يصيب أصابع الأطراف والأنف, ومن هنا سبب تسميته بالموت الأسود.
الطاعون الرئوي:(Pneumonic plague) وهو الأقل شيوعًا ولكن الأخطر لأنه ينتقل من شخص إلى آخر عبر رذاذ العطاس والسعال، هذا الشكل من الطاعون دون التدخل العلاجي المناسب والسريع قد يودي بحياة الشخص خلال يومين.
مع تطور المعيشة وظهور أسس النظافة العامة والشخصية ومكافحة الحشرات وانتشار الأدوية والصادات الحيوية بشكل واسع, أخذ الطاعون بالزوال وانخفضت نسبته كثيرًا, ولكنه لم ينقرض بالكامل, ففي عام 2003 سجلت أكثر من 2100 حالة و180 حالة وفاة بسببه, أغلبها كان في إفريقيا.
آخر ظهور خطير وموثَق للطاعون كان عام 2006 في جمهورية الكونغو الديموقراطية حيث تسبب المرض بمقتل 50 شخصًا.
إلا أن المرض لم يختفي نهائيًّا بعد ذلك, حيث سجلت 15 حالة طاعون في أتلانتا/الولايات المتحدة الأمريكية في 22/10/2015و4 منها انتهت بالموت.
أغلب المرضى لهم القدرة على التغلب على المرض إذا عولجوا بالدواء المناسب في الوقت المناسب..
ومن الأدوية المستخدمة للعلاج: الجنتامايسين, الدوكسيسايكلين, السيبروفلوكساسين, الليفوفلوكساسين وهي صادات حيوية متوفرة في كل الصيدليات حاليًّا, يا لسخرية القدر..
هناك مخاوف حول استعمال جرثومة الطاعون كسلاح بيولوجي إرهابي إذا اُطلقت بشكلها المنتقل بالهواء، وهذا يمكننا أن نراه متمثلًا في فيلم ((Inferno.
إننا نتطور أسرع مما تتخيل, فما هي عدة قرون من الزمن لنتحكم بما وصف سابقًا على أنه الجحيم بحد ذاته؟
فإذا تمكنا من السيطرة على جحيم الأمس إلى أين سنصل غدًا؟!!
- إعداد: أليس ديوب.
- مراجعة: داليا المتني.
رااائع …