قبل قرابة الـ 66 مليون عامٍ شهدت الأرض أحد أسوأ الانقراضات الجماعية في تاريخ الحياة، فقد انقرض قُرابةَ ثلاثةِ أرباعِ الأنواعِ التي كانت تقطن الأرضَ في تلك الفترة (تحدثنا عن ذلك الأمر بتفاصيل أكبر في مقالنا السابق: كيف وصلنا إلى الفقاريات الحالية؟ 5. ما بعد الجوراسي ) كان ذلك الانقراض مؤذِنًا بانتهاءالعصر الطباشيري وكذلك حقبةِ الميسوزويك Mesozoic era التي تسيَّدت فيها الزواحف من الديناصورات والتيروصورات الأرضَ بلا مُنازع، وبدايةِ حقبةِ السينوزويك Cenozoic era التي ما تزال مُستمرة حتى اليوم، فقد اختفت أغلب المفترسات الضخمة التي كانت تتغذى على الثدييات عندما كانت حيوانات صغيرة لا يزيد حجمُ أكبرِها عن حجم القط المنزلي، وكانت الثدييات وقتَها حيواناتٍ هامشية لا يوجد فيها ذلك التنوع الهائل الموجود اليوم، ولا تتخطى قيمتها كونها أصنافًا على قائمة طعام الديناصورات المفترسة، لكن كل هذا سيتغير جذريًّا.
مع انقراض أغلب الديناصورات، واختفاء المفترسات الأبرز، شكّل ذلك فرصةً بلاتينيةً للثدييات الناجية كي تتكاثرَ بشكل أكبر، وتنتشر على نطاق أوسع، وتخترقَ بيئات لم تعرفها من قبل. وتزامن ذلك مع انتشارٍ كبير جدًا للحشرات التي أدَّت دورًا محورياً في نقل حبوب اللقاح بين النباتات المزهرة التي كانت ما تزال أقلية وقتها بين الأنواع النباتية، مما أدى لازدهار غير مسبوق للنباتات المزهرة التي شكلت غذاءً للعديد من الأنواع، ومع اختلاف البيئات وكثرة العدد ووفرة الموارد كانت فرصة مدهشة لتزدهر وتتنوع هذة الكائنات بشكل غير مسبوق ليشهد عصر الباليوسين (66-56 مليون عام) طفرة مدهشة في تنوع الثدييات، فتخبرنا الأحافير التي تعود إلى هذا العصر قصصاً رائعة عن أسلاف الثدييات الحالية وأشجار عائلاتها.
لدينا هنا كائن يشبه الفأر، إنَّه برجاتوريوس Purgatorius، ما يثير الاهتمام فيه هو أسنانه تحديداً أضراسه الخلفية فهي تشبه أضراس الرئيسيات بحواف مربعة و نتوءات مُثَلَّمة blunt cusps، ولكن قواطعه الأماميه تشبه أسنان القوارض، وعينيه على جانبي وجهه وعظمتي مِحجري عينيه غير مكتملتي الاستدارة، ينتمي برجاتوريوس إلى طائفة Plesiadapiformes، وهي أقدم طائفة عثر عليها لدى أضراسها هذا الشكل المميز للرئيسيات.


تضم هذة الطائفة قُرابةَ ست عائلاتٍ جميعها منقرضة، وقد تميزت جميعها بهذا النمط من الأضراس الذي لا نراه إلا لدى الرئيسيات، مما حَدَى بعلماء الحفريات لوضعها مع الرئيسيات ضمن تصنيف أعلى هو أشباه الرئيسيات Primatomorpha.
نوع آخر ينتمي للطائفة نفسها هو بليسيادابيس Plesiadapis والذي عُثِر على أحافيرَ كثيرة له، وسميت هذة الطائفة نسبة إليه، عاش بليسيادابيس متأخراً عن برجاتوريوس في أوائل عصر اليوسين، وكان طوله لا يتعدى 60 سم و وزنه لا يزيد عن أربعة كيلوجرامات، ويُعتقد من شكل عظامه أنَّ جسده كان مناسباً للحياة على الأشجار، وكانت له أضراس خلفية ذات حواف مربعة ونتوءات مُثَلَّمة كقريبه برجاتوريوس وكالرئيسيات، لكن كان لديه ضرس أمامي أقل.


لم تظهر الرئيسيات الفعلية حتى عصر اليوسين Eocine epoch (55-34 مليون عام)، ولكن قبل أن نستطرد، ما الذي يميز الرئيسات عن غيرها؟ ما الذي يجعلنا نصنف ذلك الكائن من الرئيسيات وذاك من خارجها؟
لدى الرئيسيات صفات مميزة لا توجد مجتمعةً في أي رتبة أخرى، أبرزها:
- الأظافر والتي يمكن أن تكون موجودة مع المخالب أو دونها.
- وجود أصبعٍ في الطرف الأمامي متموضعٌ في اتجاه معاكس لباقي الأصابع (الإبهام)، ويَسمح ذلك الإصبع للرئيسات بالتحكم في أطرافهم الأمامية بشكل أكثر فعالية من أي كائنات أخرى، واستخدامها في الإمساك بالأشياء بقوة وإحكام.
- زنار صدري ذو حريةِ حركةٍ أكبر، ومِفصلُ كتفٍ أكثرُ مرونةً يُمكِّن الطرفَ الأمامي من الحركة في أكثر من اتجاه؛ للأمام والخلف ويميناً أو يساراً وإلى الأعلى والأسفل، هذه خاصية ليست موجودةً في أغلب الثدييات الأخرى التي تُمكنُها مفاصلُ أكتافها من الحركة إلى الامام والخلف فقط.
- وجود جدارٍ عظمي خلف تجويفي العينين يفصِلُهما عن باقي تجاويف الجُمجُمة، يتكون من التقاء عدة عظام مع بعضها، لا يوجد هذا الجدار لدى أي حيوان آخر خارج رتبة الرئيسيات.
في أواخر عصر الباليوسين قبل 56 ستٍ وخمسينَ مليونِ عام حدث نشاط بركاني كبير في شمال المحيط الأطلسي مما تسبب في إطلاق كميات ضخمة من غاز الميثان وغازاتٍ دفينة أخرى إلى الغلاف الجوي، وتسبب ذلك في ارتفاعِ درجة حرارة سطح المحيط بنحو خمس درجات مئوية واحترارٍ عالمي كبير فيما يعرف جيولوجياً بفترة الاحترار الفاصلة بين عصري بين الباليوسن واليوسين Paleocene-Eocene Thermal Maximum(PETM)، واستمر ذلك الاحترار قرابةَ 100000 مائة ألف عام قبل أن تبدأ مستويات الحرارة و الرطوبة في الانخفاض بمعدلٍ شبه ثابت طوال عصر اليوسين، وتسبب ذلك الاحترار أيضاً في انقراض الكثير من الأنواع في تلك الفترة، ولكنه على الناحية الأخرى يبدو أنَّه تسبب في ازدهار أنواع أخرى أصبحت أكثر تكيفاً مع بيئاتها، وتُعد أقدمَ حفرياتٍ عُثِر عليها لرئيسيات تلك الفترة، تمايزت الرئيسيات في أوائل عصر اليوسين لمجموعتين رئيسيتين:
- الهباريات أو رطبات الأنف Strepsirrhini
- النسناسيات أو جافات الأنف Haplorhini
ربما أكثر ما يميز الهباريات هو ترتب القواطع والأنياب على الفك السفلي بصفةٍ متوازية، على نحو يجعل شكلها يشبه المشط، ومنها سُمِّي هذا التكوين بمشط الأسنان toothcomb، وتتميز الهباريات أيضاً بجلد أملس رطب حول فتحتي الأنف.
ظهرت لديها الأظافر لكنها ظلت محتفظة بالمخالب، واحتفظت أيضاً بالقدرة على إنتاج فيتامين (ج) ascorbic acid والتي فقدها أبناء عمومِتها من النسناسيات نتيجةً لطفرة في الجين المكوِّد لإنتاجه تسببت في تعطيله تماماً.
ومن ناحية أخرى تميزت النسناسيات بشفاه علوية منفصلة عن الأنف على عكس أبناء عمومتها من الهباريات، مما سمح أولَ مرة في تاريخ الحياة بتشكيلة واسعة من تعبيرات الوجه كانت مستحيلةً في الماضي، ولكن في المقابل صَغُر حجمُ البصلة الشمية olfactory bulb وهي الجزء المسؤول عن عملية الشم في المخ، مما أدى لتراجعٍ ملحوظٍ في قدرات حاسة الشم لديها مقارنة بالهباريات، وفقدت كذلك المخالب وأصبح لديها الأظافرُ فقط، أضافة بالطبع لفقدانها القدرة على تكوين فيتامين (ج).




في عصر اليوسين، تمايزت الهباريات إلى فيالق عديدةٍ انقرضَ أغلبها، ولكن نجا منها ثلاثة لا تزال أحفادها موجودة حتى اليوم وهي:
- Chiromyiformes
- أشباه الليموريات Lemuriformes
- أشباه اللوريسيات Lorisiformes
انتشرت تلك الفيالق الثلاثة في أفريقيا طوال عصر اليوسين، واخترقت بيئات لم تعرفها أسلافها، وكانت لها قصة مثيرة تستحق أن تروى.
في عام 1992 اكتُشِف في منطقة جبل قطراني بمنخفض الفيوم بمصر حفريات لبلسيوبيثيكس Plesiopithecus، ويبلغ عمرها قرابة 34 مليون سنة، ويشكل مع بروبوتو Propotto الذي عثر عليه في كينيا عام 1967 قريبين مباشِرين لحيوان الأيأي Daubentonia madagascariensis الذي يعد النوعَ الوحيدَ من تصنيف Chiromyiformes الموجودِ حالياً، والذي لا يوجد في أي مكان آخر في العالم إلا في جزيرة مدغشقر.
كانت أشباه الليموريات أكثر نجاحاً، و يبدو أنها قد انتشرت في بيئات أكثر تنوعاً؛ إذ تمايزت إلى العديد من العائلات بقي منها حتى اليوم 5 عائلات تضم قُرابة 20 نوعاً جميعُها موجودة في جزيرة مدغشقر، ولا توجد في أي مكان آخر.
و لكن كيف عبرت أسلاف هذه الأنواع البحر إلى مدغشقر؟
في عصر اليوسين كان تيار المحيط في منطقة جنوب غرب المحيط الهندي ينساب من الغرب إلى الشرق (على عكس اتجاهه الحالي) وذلك بسبب اختلافاتٍ في مواضع القارات وانزياحاتها بضعة آلاف من الكيلومترات عن مواضعها الحالية، إضافة لاختلاف درجات الحرارة، وعندما نمذَجَ هذه العمليةَ حاسوبياً كلٌ من جيسون ألي و ماثيو هاربر في بحث رائع منشور في دورية Nature عام 2010 حصلا على نموذجٍ لتيارات المحيط مختلفٌ تماماً عن الموجود حالياً، وأكدا أنَّ انسياب التيار في هذة الفترة كان من الساحل الأفريقي إلى مدغشقر، وليس العكس. إذن ما حدث هنا هو أنَّ أفراداً من أسلاف الليموريات والـ Chiromyiformes قد تمت الإطاحة بها إلى المحيط غالباً بسبب عواصف استوائية، وطَفَت على أجزاء نباتية حتى وصلت لساحل مدغشقر، بنفس الطريقة التي وصلت بها سحالي الإيجوانا الشهيرة إلى أرخبيل جالاباجوس كما تحدثنا عنها في مقالنا السابق ( قدرات خارقة: الإيجوانا البحرية (الأكورديون الحي) ) ، ومن المؤكد أنَّ ذلك قد حدث مرتين، مرة جاءت بسلف الليموريات، ومرة بسلف الأيأي، وكلتاهما حدثت في عصر اليوسين، وبينما انقرضت هذه الأنواع على البر الرئيسي لأفريقيا، وازدهرت في مدغشقر وبقيت حتى اليوم.
كانت أشباهُ اللوريسيات أوسعَ انتشاراً من أبناء عمومتها، بقي منها حتى اليوم عائلتين:
- اللوريسيات Lorisidae التي تمايزت إلى لوريسيات أفريقية Perodicticinae وتشمل ثلاثة أنواع، ولوريسيات أسيوية Lorisinae وتشمل ثمانية أنواع.
- الجالاجويات Galagidae وتشمل حوالي 20 نوعاً موجودةٌ جميعها في أفريقيا.
ولكن ماذا عن أبناء عمومتها من النسناسيات؟
لهذا المسار قصة أخرى نحكيها في الجزء القادم.







المصادر:
- Vertebrate Paleontology and Evolution. Robert L. Carroll . 1988. W. H .Freeman and company. P464-470.
- https://www.grossmont.edu/
- https://www.britannica.com/science/Paleocene-Eocene-Thermal-Maximum
- https://www.amnh.org/
- https://www.nature.com/articles/nature12200researchgate
- https://www.nature.com/articles/s41467-018-05648-w#ref-CR9
- https://www.nature.com/articles/nature08706
- https://www.britannica.com/animal/primate-mammal/Classification#ref876423
- إعداد: محمد علي.
- مراجعة: فريز ابراهيم.
- تدقيق لغوي: سماء مرعي، نور عبدو.