in , ,

الإشراط الاستثابي: هل أنت حقًا تعي ما تقوم به؟ أم أنه مُتلاعَبٌ بك؟

 ستتعرف في هذا المقال أحدَ أشهر طرائق التعليم في علم النفس وهو الإشراط الاستثابي (Operant conditioning)؛ فما المقصود بهذه الطريقة في التعليم؟ وكيف تعمل؟

الإشراط الاستثابي؛ طريقةٌ للتعلم تُطبَّق من خلال المكافآت والعقوبات على السلوك عبر تكوين ارتباط بين سلوكٍ ما ونتيجةِ هذا السلوك إما لتعزيزه أو بغرض الامتناع عنه.

على سبيل المثال: عندما يضغط فأر المختبر على زر أزرق، فإنه يتلقى الطعام بمثابة مُكافأة؛ ولكن عندما يضغط على الزر الأحمر فإنه يتلقى صدمة كهربائية خفيفة. ونتيجة لذلك؛ يتعلم الضغط على الزر الأزرق ويتجنب الضغط على الزر الأحمر.

لكن؛ الإشراط الاستثابي ليست مجرد طريقة تتم في بيئة تجريبية في أثناء تدريب حيوانات المختبر؛ بل إنها تشغل دورًا مهمًا في التعلم اليومي أيضًا؛ إذ يُطبَّق التعزيز- reinforcement والعقاب- punishment في كل يوم تقريبًا في البيئات الطبيعية وفي البيئات الأكثر تنظيمًا مثل الصفوف الدراسية أو جلسات العلاج.

فلنلقِ نظرة عن كثب على كيفية اكتشاف الإشراط الاستثابي وتأثير هذا الاكتشاف في علم النفس، وكيف استُخدم لتغيير السلوكيات القديمة وتعلم سلوكيات جديدة.

B.F. Skinner at Harvard

 صاغ هذه الطريقة عالمُ النفس والسلوك الأمريكي بورهوس فريدريك سكينر B.F. Skinner ، ولهذا يشار إليها أحيانًا باسم Skinnerian conditioning، فحينما ركز علماء السلوك الأوائل على التعلم الترابطي، كان Skinner أكثر اهتمامًا بالإشْراط الاستثابي فالتعلم التربطي هو نمط سُلوكٍ يتعلَّمُ فيه الحيوانُ الرَّبطَ بين مُؤثِّرٍ عديمِ العلاقةِ بآخر لإحداثِ رد فعلٍ انعكاسي (كما في تجارِب پاڤْلُڤ حيثُ درَّبَ الكلابَ على رَبطِ رنينِ الجَرس مع منظرِ الطعام؛ مِمّا يُحث على إفراز اللعاب)؛ بينما الإشراط الاستثابي هي عملية تعليمية لتدريب الفرد عن طريق تعزيزٍ مقصود على استجابة مُعينة وفقًا لبرنامج مُحدد؛ بهدف إبراز سلوكٍ مرغوب.

وقد تأثرت نظريته بشدة بعمل عالم النفس إدوارد ثورنديك- Edward Thorndike وقانونه الذي أسماه قانون الأثر- the law of effect ووفقًا لهذا المبدأ، فإن الأفعال التي تتبعها نتائج مرغوبة من المرجح أن تتكرر -أي الأفعال- أكثر في  المستقبل، في حين أن الأفعال التي تتبعها نتائج غير مرغوبة يقل احتمال تكرارها.

على سبيل المثال: إذا رفعتَ يدك في الصف لطرح سؤال وأشاد معلمك بسلوكك المهذب، فمن المرجح أن ترفع يدك في المرة القادمة قبل المُشاركة في طرح سؤال أو إضافة تعليق؛ لأن السلوك تبعه تعزيز reinforcement (أي نتيجة مرغوبة)، وبالتالي؛ فإن هذا السلوك يتعزز (أي يتكرر في المستقبل).

وعلى العكس من ذلك؛ ستضعف السلوكيات التي تؤدي إلى العقاب- punishment أو إلى نتائج غير مرغوب فيها، وسيقل احتمال تكرارها مرة أخرى في المستقبل؛ فإذا قاطعتَ أستاذك في أثناء الحصة الدراسية وأنّبك على فعلك هذا، فمن غير المحتمل أن تقاطعه في أثناء الدرس مرة أخرى.

مكونات الإشراط الأدائي Operant conditioning

هناك العديد من المفاهيم الأساسية في الإشراط الأدائي.

1- التعزيز (Reinforcement) 

هو أي حدث يعزز السلوك الذي يتبعه ويرفع من احتمال تكراره، وهناك نوعان من المعززات:

معززات إيجابيّة (Positive reinforcers)
هي أشياء مرغوبة يُحصل عليها نتيجةً للقيام بسلوك محدد بمثابة مُكافأة؛ في هذه الحالة تتعزز الاستجابة بالحصول على شيء كان مرغوبًا؛ مثلًا: عند إنجازك لأمر في العمل بشكل مُبهر قد يقدم لك المدير علاوة أو مكافأة. 

معززات سلبية (Negative reinforcers)
هي أشياء غير مرغوبة تُزَال نتيجةً للقيام بسلوك محدد. وفي هذه الحالات، تتعزز الاستجابة بإزالة شيء يعتبر غير مرغوب. على سبيل المثال: إذا بدأ طفلك في الصراخ في المتجر، من ثم توقف بمجرد إعطائه لعبة ما، فمن المرجح أن تعطيه لعبة في المرة القادمة التي يبدأ فيها بالصراخ، وقد أدى الإجراء الذي قمت به إلى إزالة الحالة غير السارة بالنسبة لك (صراخ طفلك)؛ مما عزز سلوكك سلبًا.
وفي الحالتين السابقتين يتكرر السلوك.

2- العقاب (Punishment)

العقاب هو أي حدث سلبي يسبب انخفاضًا في معدل تكرار السلوك الذي يتبعه.   هناك نوعان:

العقاب الإيجابي (Positive punishment)
هو حدث أو نتيجة غير مرغوبة، وتُطبق لإضعاف السلوك الذي يسبقها.
مثال على العقاب الإيجابي: الضرب على اليد بمثابة عقاب على تصرف سيئ بدر من طفلك.

العقاب السلبي (Negative punishment)
يحدث عندما يُزال حدث أو نتيجة مرغوبة بعد حدوث سلوك ما.
مثال على العقاب السلبي: التخلص من لعبة الفيديو الخاصة بطفلك عند إساءته للتصرف أو قيامه بسلوك غير مرغوب.

وفي كل من الحالتين السابقتين، يقل معدل تكرار السلوك.

جداول التعزيز

إن التعزيز وتأثيره على جداول تعزيز السلوك ليس بالضرورة عملية مباشرة، هناك عدد من العوامل التي يمكن أن تؤثر في مدى فعالية تعلم الأشياء الجديدة وسرعة حدوث ذلك.

وجد Skinner أن هناك تأثير لـ توقيت (timing) ومدى تكرار (frequency) التعزيز على كيفية تعلم السلوكيات الجديدة وتحوير السلوكيات القديمة.

كما حدد عدة جداول مختلفة تؤثر على عملية الإشراط الاستثابي تتضمن ما يلي: 

التعزيز المستمر (Continuous reinforcement)
تقديم التعزيز في كل مرة يحدث فيها السلوك؛ هنا يميل الفرد إلى التعلم بشكل سريع نسبيًا؛ ولكنّ معدل الاستجابة إلى هذا التعزيز يكون منخفضًا إلى حد كبير، كما يحدث الامتناع عن القيام بالسلوك المدروس بسرعة كبيرة وبمجرد توقف التعزيز.

جداول النسب الثابتة (Fixed-ratio schedules)
هي نوع من التعزيز الجزئي؛ فلا يتم فيها تعزيز السلوك إلا بعد حدوثه عددًا محددًا من المرات، يؤدي هذا عادةً إلى معدل استجابة ثابت إلى حد ما.

جداول الفواصل الزمنية الثابتة (Fixed-interval schedules)
هي شكل آخر من أشكال التعزيز الجزئي، فيها يحدث التعزيز بعد انقضاء فترة زمنية معينة. هنا أيضًا تظل معدلات الاستجابة ثابتة إلى حد ما، وتبدأ في الزيادة مع اقتراب موعد التعزيز، ولكن تتناقص بعد تقديمه مباشرة. 

جداول النسب المتغيرة (Variable-ratio schedules)
هي أيضًا نوع من التعزيز الجزئي الذي يتضمن تعزيز السلوك بعد تكراره عدة مرات مع اختلاف عدد المرات التي يحدث فيها التعزيز؛ مما يجعله غير قابل للتنبؤ، وهذا يؤدي إلى ارتفاع معدل الاستجابة وتناقص معدلات الامتناع.

جداول الفواصل الزمنية المتغيرة (Variable-interval schedules)
هي الشكل النهائي للتعزيز الجزئي؛ يتضمن هذا الجدول تقديم التعزيز بعد انقضاء فترة زمنية متغيرة. وهنا أيضًا ترتفع سرعة الاستجابة ويتناقص معدل الامتناع. 

كيف تستخدم الإشراط الاستثابي لصالحك ؟

إذا قررت استخدام التعزيز الإيجابي في حياتك (لاكتساب عادة جديدة أو الامتناع عن أخرى سيئة)، أو مع أطفالك أو مع الحيوانات الأليفة  أو في العمل، هناك بعض النقاط الرئيسة التي عليك تذكرها:

  • قيمة المكافأة: عليك اختيار مكافأة تعرف مدى مرغوبيتها لدبك أنت شخصيًا أو لدى طفلك أو حيوانك الأليف.
  • قد تقل قيمة المكافأة مع الوقت، لذا؛ لا تُعطِها بحرية كبيرة. (راجع جدول التعزيز)
  • قد ترغب في التفكير مكافأة احتياطية، إذا ما أصبحت المكافأة الحالية غير قيمة.
  • قلل معدل الحصول على المكافأة؛ تذكر أن الهدف في نهاية المطاف هو القيام بالسلوك المطلوب دون الحاجة إلى مكافأة.
  • لا تستهِن أبدًا بقيمة الثناء (مع طفلك خاصة)، في العديد من الحالات قد تتفوق هذه الجائزة على أي مكافأة ملموسة.

مُشكلات نظرية الإشراط الاستثابي

هناك نوعان من المُشكلات: المُشكلات الأخلاقية والمُشكلات العملية.

المُشكلات  الأخلاقية (Ethical Issues)

أسهل طريقة لشرحها هي التجربة الفكرية الآتية: إذا أدركت فجأة أن الطرف الآخر (قد يكون شريكك أو زوجتك أو ابنك أو صديقك) قد فعل أشياء لطيفة لك فقط عندما كنت تقوم بما يريده منك، كيف ستشعر؟ أتصور أنك قد تُصدَم أو تغضب بل وربما قد تشعر أنه قد تم التلاعب بك.
برأيك؛ كم من الوقت ستبقى في هذه العلاقة؟ هذا السيناريو هو التعبير المجازي المثالي للمشكلة الأخلاقية المرتبطة بالإشراط الأدائي.

إن القضية الأخلاقية الأكثر جوهرية هي التلاعب والاستغلال؛ ولكنها أيضًا قضية تظهر على المدى القصير.
وهناك ما قد يكون أسوأ منها: على الرغم من أن الإشراط الاستثابي قد يكون فعالًا، إلا أنه لا يعلِّم المهارات المطلوبة؛ فهو لا يعلم المهارات التي يحتاج إليها الطفل في الحياة، مثل التفاوض والتسوية وصنع القرار (ماريون، 2006). توصل الباحثون إلى أن الرياضات المنظمَة للبالغين تفشل في القيام بأكثر من مجرد التمرين الجسدي (Berk، 2012). وعلى النقيض من هذا، فإن الألعاب التي يُنظمها الأطفال، يبتكرونها كلية، ويقررون القواعد ويفرضونها، تحسن من التنمية الأخلاقية (نمو قدرة الفرد على التفريق بين الصواب والخطأ وتنمية الاتِّجاهات- attitudes* الخُلُقية والقيم- values*.)، ومهارات التفكير الانتقادي لديهم، والمساومة، والتفاوض (Berk، 2012). 

يرجع هذا الاختلاف إلى من يتخذ القرارات؛ ففي الرياضة، يضع البالغون القواعد ويقررون من يلعب وأين، من ثم يتبع الأطفال هذه القواعد آليًا، أما في الألعاب التي ينظمها الأطفال، يقوم الأطفال بكل هذه المهام بأنفسهم، ويتعلمون عن طريق القيام بها.

المُشكلات العملية (Practical Issues)

إن أحد الحقائق التي ينبغي أن تدركها عن الإشراط الاستثابي هي أنك قد لا تصل إلى هدفك المنشود وقد يكون تغير السلوك غير دائم بل وقد يحدث سلوكًا معاكسًا.

تغيير غير دائم للسلوك:

بشكل أساسي، يتعلم الشخص السلوك للحصول على المعززات أو لتجنب العقوبات، وعندما تتوقف هذه التعزيزات/العقوبات، يتوقف السلوك كذلك. لذا؛ فإن المراهق الذي درس، ونظف غرفته لأن والده يطبق الإشراط الاستثابي فقط، من المرجح أن يذهب إلى الكلية ويتخلى عن هذه السلوكات ليفعل ما يريده هو، فوالده غائب وليس هناك تعزيز أو عقوبة، لذا فهو لا يدرس أبدًا، وقد يرسب في النهاية.

إن الأطفال يتعلمون كيف يتصرفون استجابةً للمعززات والعقوبات؛ ولكنهم لا يتعلمون كيف يقدرون قيمة السلوكيات وأهميتها في حد ذاتها. ومن ناحية أخرى، إنهم يفشلون في “استيعاب” القواعد، فهم في الحقيقة لا يعرفون أبدًا لماذا عليهم التصرف بشكل أو بآخر، ويمكنك ملاحظة هذا على الطريق السريع كل يوم؛ فنسبة صغيرة من الناس فقط هم من استوعبوا القوانين الخاصة بحدود السرعة، أما البقية فإنهم لا يلتزمون بحدود السرعة ويتجاوزونها في أغلب الأوقات، ولا يحترمونها إلا حين توجد الشرطة، تتباطأ حركة المرور  بشكل كبير عندما يلاحظ الناس الضابط، ثم يعودون مرة أخرى بعد تجاوزه إلى خرق القوانين، كما لا يمتثلون للعقاب (دفع ضريبة الإسراع) إلا إن وجدوا الضابط أمامهم.

السلوك المعاكس:

قد يؤدي الإشراط الاستثابي إلى عكس السلوك المرغوب تعزيزه، تحدث هذه المشكلة عمومًا عندما لا ينظر الشخص البالغ (أو الشخص الآخر الذي يقدم التعزيز) بوضوح إلى الموقف، أو عندما لا يفهم الإشراط الأدائي جيدًا؛ على سبيل المثال: يتصرف الطفل في الصف بشكل غير مقبول، فيصرخ المعلم في وجهه ليتوقف، يتوقف الطفل لفترة وجيزة؛ ولكن سرعان ما يعود إلى سلوكه مرة أخرى. 

غالبًا ما يقوم الطفل الآن بهذا السلوك بشكل مبالغ فيه! وقد يكون لدى الطفل أسباب كثيرة لذلك مثل: البحث عن الاهتمام، ومحاولة زيادة شعبيته لدى الأطفال الآخرين، أو حتى (دون وعي) لتأكيد الاعتقاد السلبي الذي كُوِّن عنه من قبل الآخرين؛ إذ يتصرف الطفل غالبًا لتأكيد الوصف الذي يُطلق عليه حينما يُقال له إنه غبي على سبيل المثال، كما يرى أخصائي المعالجة في الأنظمة العائلية أن الطفل يحاول تأكيد دوره وسط عائلته، فإن كان أفراد الأسرة يرونه “الطفل السيئ” سوف يقبل بهذا “الدور” ويتصرف على نحو سيئ، وذلك لأن هذا هو توقع عائلته.

إنشاء سلوكيات سيئة أخرى:

يستطيع الإشراط الاستثابي أن يتسبب في إنشاء سلوكيات غير مرغوبة بتاتًا؛ على سبيل المثال: يميل الأطفال الذين يُطلَب منهم أن يأكلوا خضروات من أجل الحصول على الحلوى إلى التوق إلى الحلويات أكثر والخضروات أقل، حتى أقل مما كانوا عليه في البداية (Berk, 2012). لذا؛ بينما يحاول الأبوات فعل شيء جيد، فإنهما يخلقان في ذهن طفلهما تصورًا خاطئًا يؤدي إلى تصرفات غير مرغوبة على المدى البعيد، يتصور الطفل “أن هذه الخضروات لا بد أن تكون سيئة إذا كان عليهم رشوتي بالحلويات لأكلها”.

العملية القسرية أو القهرية (coercive process)

 ماريان ماريون (2003). يوصف  هذا الموقف بأنه موقف يتعزز فيه كل شخص للعمل بطريقة سلبية وعدوانية؛ على سبيل المثال،د: يضرب طفل آخر، فيرد الطفل الثاني بالضرب كذلك، ويستمر الشجار حتى يتدخل شخص بالغ في الأمر ويتصرف بعنف أيضًا، ربما بالصراخ على الأطفال أو بضربهم. يتوقف الأطفال فترةً وجيزةً؛ مما يجعل البالغين يشعرون أنهم قاموا بالفعل الصائب (تعزيز سلبي) ويصبح التصرف بعنف هو الحل لإيقاف الشجار؛ لكنّ البالغين، بهذا الشكل، يعطون أنموذجًا سيئًا يعلم الأطفال أن العنف والعدوان هو الوسيلة لحل المشاكل. مع الوقت يتعزز هذا الحل ويميل الأطفال إلى التصرف بعدوانية أكبر وأشد حدة.
إذًا؛ محاولة البالغ لإيقاف العنف والعدوانية أصبحت تغذي هذا العنف غعليًا. 

بعد قراءتك لهذا المقال هل تظن أنك تتحكم في أفعالك؟ هل تصدر أفعالك عن فهمك العميق للمبادئ والقوانين؟ أم أنها تخضع كليًا للتعزيزات والعقوبات؟
شاركنا رأيك في التعليقات.

المصادر: 1 && 2 && 3

  • إعداد: نادية حميدي .
  • مراجعة: مريم إسماعيل.
  • تدقيق لغوي: نور عبدو.

4 تعليق

ضع تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كيف يتعرف الروبوت الوجوه؟

عضلات وجه الكلاب تطورت لإثارة التعاطف لدى البشر