سيكون حاسوبك في المُستقبل حيًّا، كحاِلك تقريبًا، وهذا المُستقبل قد بدأ اليوم. فهل تتخيّلُ وجودَ حواسيب دقيقة تعمل مع خلايا جسدك، وتتغذى على طاقة تكتسبُها من البروتينات الموجودة فيه؟ كيف يُمكن بناء هذه الحواسيب؟ وكيف تعمل؟ هل يُمكن اعتبارها ترف علميّ؟ وماذا يُمكن أن تحقّق من فوائد للبشر؟
هيّا بنا، فلنتابع المقال ونتعرّف على آخر الأبحاث والإنجازات في هذا المجال، أملاً في الحصول على إجابات للأسئلة السابقة.
إنّ التعريف الأكثر شيوعًا للحاسوب أنّه جهازٌ الكترونيٌّ يتعاملُ مع الكثيرِ من المعلومات المُعقّدة. ولكن من الجدير بالذكر، أنّ أصل الكلمة يرجع إلى منتصف القرن السابع عشر، وكان يعني ببساطة “الشخص الذي يقوم بالحساب” دون التطرّق إلى الالكترونيات.
الآن، فلنُلقِ نظرةً دقيقةً أكثرَ على مستقبلِ الحوسبة. كما أعلنت New Scientist؛ أنّ فريقًا من المعهد الفيدرالي للتقنيّة ETH في زيورخ – سويسرا، وجامعة بازل Basel، في سويسرا أيضًا، يحرز خطوات جديدة في إنشاء الحواسيب الحيويّة، الحواسيب المصنّعة من الخلايا الحيّة، بالإضافة لورقة علمية جديدة، في Nature Methods تقدّم تفاصيل عن هذا النظام الأكثر تطوّرًا حتى الآن.
باستخدام تسعة تجمّعات مختلفة من الخلايا تم تقسيمها إلى عناقيد ثلاثية الأبعاد. تمكّن فريق من علماء الأحياء التخليقية من جعل هذه التجمّعات تأخذ سلوك دارات الكترونيّة حاسوبيّة بسيطة. وتم استبدال الإشارات والتسليكات الالكترونية بمُدخلات كيميائية، وبذلك ينتج حاسوب حيوي يستجيب للبيانات الواردة، ويعالجها باستخدام البوابات المنطقية الأساسيّة AND وOR وNOT.
الحواسيب الحيويّة والبوابات المنطقيّة
البوابات المنطقية في الحواسيب هي عبارة عن دارات كهربائية صغيرة تحتوي على مدخلين ومخرج واحد، يتمّ استقبال الإشارة الكهربائية الواردة من البوابة، ولا يُسمح لها بالمرور إلا إذا تطابقت مع معاملات البوابات. وكما قلنا البوابات المنطقية الأساسيّة هي AND وOR وNOT.

يمكن أنّ تكون المُدخلات في بوابة منطقية ما أحد الحالتين، نعم أو لا، متمثّلةً بأصفار وواحدات، لهذا يُشار إلى الأنظمة الثنائيّة عند الحديث عن الأنظمة الرقميّة؛ لأنّها تعتمد على البوابات المنطقيّة.
فعلى سبيل المثال: يتحول الدخل الثنائي 1 عند تمريره عبر بوابة NOT إلى 0. هذه أمور أساسية للغاية، لكن حقيقةً؛ تمكّن الفريق من جعل الحواسيب الحيوية التي قاموا بتصنيعها قادرة على القيام بذلك، يعدّ إنجازًا رائعًا.
معلومٌ أنّ هذا الإنجاز ليس الأول من نوعه؛ إذ هنالك العديد من الأمثلة السابقة على سحر الحواسيب الحيويّة، لكنّها بدائية؛ ابتداءً بصنع الترانزستورات من الحمض النووي (تُسمّى transcriptor)، وانتهاءً بتطوير شاشات عرض حيويّة (تؤمن عروض رقميّة) باستخدام البروتين الذي يسبب التوهّج عند قنديل البحر (البروتين الأخضر الفلوري- Green Fluorescent Protein).كما يُمكن ربط هذه الشاشات مع تطبيق على الهاتف الذكيّ، يمكنه عرض الرسائل من خلال إضاءة مناطق معيّنة، بلْ وحتى تشغيل ألعاب الفيديو الأساسية.
هذه أعمال خلّاقة ومُبهرة بالطبع، لكن العمل الذي نتحدث عنه هُنا والمُعتمِد على البوابات المنطقيّة، يُعتبر أكثر تقدّماً؛ إذْ هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الخلايا البشريّة لإنشاء حاسوب حيويّ. أضف أنّه يتميّز بإمكانية إعادة ترتيب العقد الحاسوبية عند الحاجة.
هل من المُفاجئ أن تقوم مجموعة من الخلايا بدور الحاسوب الأوّلي؟
قام الباحثون بعنقدة مجموعات الخلايا الحيويّة بطريقة مُشابهة للدارات الحاسوبيّة واستخدموا المُنشّطات الكيميائيّة المُختلفة لمُحاكاة العناقيد (أي مُحاكاة دور البوابات المنطقيّة)، وبذلك تمكّنوا من بناء الحاسوب الحيويّ.
سابقًا، حصل الفريق على زوج من الخلايا للقيام بمهام إضافة (جمع) أساسيّة، لكن بالنسبة لهذا المشروع؛ أنجزوا شيفرات جينية لكلّ نوع من أنواع الخلايا البشرية ضمن هذه الحواسيب الحيويّة. ونظرًا إلى تمنّعهم عن الاستجابة للإشارات الكيميائية الحيويّة، كما هو معتاد، تم تنبيه كل منها لتنفيذ عملية حسابية واحدة فقط، بحيث تكون معرّفة بوضوح.
أتاح ذلك لتجمّع الخلايا- الحواسيب الحيويّة- أداء حسابات الجمع الكامل full-adder؛ ما يعني أنها قادرة على أداء حسابات أكثر تفصيلاً، وتعقيدًا، وترابطًا على التوازي. ومن خلال إمكانيّة إعادة ترتيب الخلايا، يُمكن إجراء أنوع مختلفة من الحسابات.
رُبما تعتبر هذا مُضايقًا، لكن لا تنسَ أنّ الحاسوب مجرّد شيء يُعالج البيانات. وإذا كان من الصعبِ عليك تصديق أنّه بإمكانِ عنقودٍ من الخلايا القيامُ بعملياتٍ حسابيّةٍ، ومعالجةِ البياناتِ والمعلوماتِ، تذكّر أنّ أدمغتنا تفعلُ الشيء ذاته؛ إذْ يقوم الدماغ، وهو أكثرُ تعقيدًا من الحواسيب بالطبع، بمُعالجةِ البياناتِ طوال الوقت؛ يتلقى مُحفّزاتٍ واردة من العالم الخارجيّ، لتقوم خلايانا العصبيّة (أي البوابات المنطقيّة في الحاسوب) بمعالجة المعلومات، لتنتج ردود أفعالنا وفقاً لذلك، (أي تُخرج إشارة إلى الأعصاب والعضلات ذات الصّلة لتنفيذ الإجراء).
تهدف الأشكال المختلفة للذكاء الصنعي لمحاكاة الجوانب المختلفة للدماغ البشري، من خلال استخدام الشبكات العصبونية الصنعيّة. الحاسوب هو مجرد نظام يعالج المعلومات، وقد لاحظ فريق البحث المسؤول عن الدراسة كيف يُمكن استغلال أوجه التشابه بين الخلايا الحيّة وأنظمة معالجة المعلومات ، مثل الحواسيب، لتنفيذ عمليات مذهلة في المعالجة.
وبالنسبة للوصلات بين الحواسيب؛ يوجد كابلات تصل بينها، لكنها ليس جامدة طبعًا، وإنما قادرة على تحسّس وإنتاج اتصالات كيميائيّة لأداء المهام الحسابية. إنّه نظام رائع، لديه القدرة على التكيّف والتطوّر.
تطبيقات الحواسيب الحيويّة
أحد التطبيقات المُقترحة لمثلِ هذا النوع من الحواسيب يتبلوّر في القدرة على إنشاء أجهزة يمكنها مُراقبة صحّة الأشخاص على المستوى الخُلويّ. يُمكن أنّ تتعرّف هذه الخلايا على احتمال تَلَف الخلايا الأُخرى أو حدوث خلل بها، وهذا يُتيح للأطباء القُدرة على اكتشاف تطوّر الأمراض بسرعة أكثر من أي وقتٍ مضى، وسَوْفَ يُزوّد الباحثين بمزيد من المعلومات حول كيفية تطوّر الأمراض.
هذا إلى جانب زيادة القدرة على تشخيص الأمراض والبحث عنها؛ مما يُساعد العلماء على علاج ومداواة الأمراض والاعتلالات المرضيّة. وبما أن الحواسيب الحيويّة تستقبل الإشارات الكيميائية كدخل، وتعطي خرجًا على أساسها، يُمكن أن يُعرَّف هذا الدخل على أّنه مؤشّر مُحَدَّد لمرض ما. وبِمُجَرَّد التقاط الحاسوب الحيويّ لماهيّة المرض، يُمكن أن يُحرّر خرجًا بصورة مادة كيميائيّة علاجيّة.
تُعدّ الحوسبة الحيويّة حقلاً حديثًا للأبحاث، ومن الصعوبة بمكان هندسةُ أنظمةٍ حيويّةٍ كهذه؛ لأن المادة الحيوية أكثر تعقيدًا وزئبقيّةً بكثير من الدارات الالكترونيّة.
ومع استمرار جهود كهذه يُمكن، في المستقبل القريب، زراعة حواسيب حيويّة داخل الكائنات الحيّة -بحيث تكون متكاملة تمامًا مع حيويّتها الخاصّة. نعم؛ وأضف أنّ هذه الإنجازات تبدو خطوةً هامّة نحو خلق حواسيب قابلة للزرع الحيويّ والانغراس في جسم الإنسان حتى، لكن بالطبع؛ طريقٌ شاقّة أمام الباحثين والعلماء حتى يصلوا إلى هكذا مَكان.
وقد ذُكر ضمن ورقة علميّة عام 2009 أفكارًا عن عالَـم تُستخدَم فيه هذه الأنظمة لتشخيص الأمراض وخلق وظائف خلويّة” مُصمِّمة” ضمن أشكال الحياة الأُخرى. مع ملاحظة أنّ الحواسيب الحيويّة هي شبكات حيويّة من صنع الإنسان هدفها فحص ومراقبة المضيفين الحيويّين (أي الخلايا والكائنات الحيّة) التي يعمل فيها، ومن الواضح أنه لعالَم جريء سيخرج إلى الأفق.
ما رأيك هل تتفّق معنا على ذلك؟ أخبرنا بما تستنتجه، ونحن الفضائيون بانتظار أسئلتك.
المصادر:
إنْ لاقى هذا الموضوع رغبةً فيك بمواصلة القراءة، يمكنك الاطّلاع على مقالات باللغة الانجليزية، للتعرف إلى هذه الأبحاث في هذا المجال وما ستؤول إليه في المستقبل، إليك بها:
ويمكنك الاطلاع على الأوراق البحثيّة الآتية:
- Programmable full-adder computations in communicating three-dimensional cell cultures.
- Biocomputers: from test tubes to live cells.
- إعداد: نور عبدو.