أولاً ماهية الذاكرة قصيرة المدى أو الذاكرة النشطة: هي نظام لتخزين ومعالجة المعلومات بشكل مؤقت لغرض تنفيذ عمليات ذهنية معقدة كالتعلم والاستنتاج والفهم؛ والذاكرة قصيرة المدى تختص ببدء وإنهاء وإختيار الوظائف المتعلقة بمعالجة المعلومات مثل: تخزين واستعادة المعلومات وإيلاجها (Encoding)*. لتقييم سعة الذاكرة (memory span) يتم إحصاء عدد المعطيات (كالكلمات أو الأرقام) التي يمكن للفرد حفظها واستعادتها، في الاختبار النموذجي لسعة الذاكرة يقوم المُختَبَر بقراءة قائمة مكونة من أرقام عشوائية بصوتٍ مرتفع بمعدل رقم/ثانية ثم يتم سؤال المُختَبَر لإسترجاع ما حفظه بالترتيب. وتُقدر سعة الذاكرة بـ7 في المتوسط للبالغين.[1]
وعلى الرغم من الأهمية المحورية للذاكرة قصيرة المدى إلا أن آلية عملها تتضمن خداعك بل ويجوز القول أنها مُصممة لذلك؛ حيث وجد العُلماء أنه عندما تُلقي نظرة لشئٍ ما وتنظر له مرة ثانية يقوم الدماغ بمغالطة النظرة الثانية جزئياً حتى تتوافق مع ما رأيته أولاً و بالتالي يمكنك أن تقول أن ما رأيته هو نفسه حتى وإن تغير (في موضعه مثلاً).
تخيل أنك تعبر الطريق فتنظر يساراً لتجد سيارة و دراجة يقتربان ثم تنظر يميناً فتعيد النظر يساراً لتجد كلاً من السيارة والدراجة في موضعين مختلفين وربما تحت إضاءة مختلفة، بمنتهى البساطة ستتمكن من إستنتاج أنهما نفس السيارة والدراجة ولكن تلك العملية ليست بسيطة على عقلك حيث يتطلب ذلك توظيف كماً من المجهود كي يستطيع أن يخبرك أنك رأيت نفس الشئ، في بادئ الأمر قد تظن حقيقة أن الدماغ يقوم بخداعك بعكس صورة مغايرة لما تراه عينيك أمراً سيئاً ولكن إن لم يحدث ذلك سيُهيأ لك -أثناء النظرة الثانية لليسار- أنك ترى موقفاً جديداً ومُربكاً وكأن سيارة ودراجة ظهرتا من العدم كما أوضح عالم النفس Christoph Bledowski.
وتلك الأفكار لسنا حديثي العهد بها؛ فقد بحث فيها العديد من العلماء ولكن Christoph Bledowski وفريقه اتخذوا خطوات أكثر عمقاً في البحث وذلك بعمل اختبار- يعتمد على تتبع العديد من الأشياء في نفس الوقت – شارك فيه 109 فرداً تتبعوا حركة نقاط حمراء وخضراء على شاشة على مدار أربعة تجارب منفصلة. ففي الاختبار كانت النقاط تتغير في موضعها و سرعتها وأحياناً تجتمع معاً على نفس الشاشة وأحياناً أخرى العكس، ووجد الفريق أن ما رآه المتطوعون -في النظرة الثانية- كان متأثراً إلى درجة ما بما رأوه في النظرة الأولى.[2] وهي ظاهرة تعرف بالـserial dependence حيث تعتمد رؤيتنا بشكل تسلسلي على رؤيتنا السابقة والحاضرة معاً لتغذية رؤيتنا في اللحظة الحالية؛ وتتضح فائدة تلك الظاهرة في جعل رؤيتنا للعالم الفيزيائي ثابتة غير مشوشة على مدار الوقت، حيث أنه البيانات البصرية التي تصل إلينا غالباً ما تكون مشوشة بفعل الحركة المستمرة للعينين وتغير الإضاءة وعوامل أخرى.[3]
إذا خلاصة الأمر هي أن ذاكرتنا قصيرة المدى تلجأ لمؤشرات مثل إتجاه الحركة والألوان وموقعها الفراغيّ لتقدم لك صور مُزيفة عن عمد. وحسبما أكدت Cora Fischer من جامعة جوتة أن المعطيات المتعددة داخل سياق الرؤية الواحد تساعدنا على التفريق بين الأشياء المختلفة و بالتالي دمج البيانات الخاصة بالشئ الواحد ولكن ما الجديد الذي قدمته تلك الدراسة؟
بالعودة لمثال “عبور الطريق” السابق ذكره، نجد أن الدراسة أثبتت أن ذاكرتنا قصيرة المدى تعالج إدراكنا لكل من السيارة والدراجة على حدة أي أن إدراكنا لشئ ما (السيارة) يتأثر مقارنة بما كان عليه سابقاً وليس مقارنة بموضعه بالنسبة للشئ الآخر (الدراجة). بصفةٍ عامة كون أن أدمغتنا تخادعنا ليس بالأمر المفاجئ؛ فنحن غالباً مانكون ذكريات زائفة أو تُمحى بعض الذكريات لأحداث أليمة كما أن أمراً مشابهاً يحدث مع تذكر الوجوه، فذلك الزيف الضئيل في إدراكنا يساعدنا في رؤية البيئة بشكل مستقر خالٍ من التشوش الناتجين من الحركة المستمرة.[2]
حاشية:
- (Encoding) : هي العملية التي تسبق تخزين حدث ما في الذاكرة حيث يتم فيها إضافة المعلومات المُستقبلة إلى نظام الذاكرة (memory system) لبدء تخزينها ثم إسترجاعها فيما بعد.
المصادر: medicinenet – sciencealert – doi
- إعداد: عبدالفتاح حسن.
- مراجعة: رند فتوح.