لدى وجوهنا إمكانية الكشف عن الكثير مِمَّا يخصّنا، فهي تكشف تاريخنا التطوري، مراحل نمونا الجنيني، قابليتنا للإصابة ببعض الأمراض وكذلك حالتنا الصحية.
ويقوم العُلماء الآن بكشف الكثير حول ما يتعلق بالوجوه، حيث أعلنت مجلّة PLOS Genetics عن مجموعة خاصة من أوراق بحثٍ تسلِّطُ الضوء على التطور في فهمنا لطريقة تشكُّل الوجوه، والتي تم اختيارها من قبل سيث فينبيرغ Seth Weinberg وزملائه من جامعة بيتسبورغ University of Pittsburgh.
تمّ تسمية المجموعة باسم: «جينات الجمجمة: أين كُنّا وإلى أين نحن ذاهبون؟»، وتم نشرها بتاريخ 22 يونيو، وهي تتضمن بحثاً حول تطوّر الوجه والجمجمة، العيوب المتشكّلة في الوجه مع الولادة والتنوع الطبيعي باختلاف الوجه.
تقدَّم البحث في الجينات التي تُشكّل الوجه بشكل رهيب في السنوات القليلة الماضية، وأظهرت سمكة الزَّرُد Zebrafish، مع البحث حول الفئران، نموذجاً قوياً لدراسة تطوّر الوجه إذ إنَّ العديد من العمليات الخلوية المسؤولة عن تشكّل وجه الإنسان مشابهة بشكل كبيرة لسمكة الزرد. ولكن تُظهر سمكة الزرد ميزتين إضافيتين هما أجنتها الشفافة التي يمكن فحصها تحت المجهر باستخدام أدوات جينية متعددة لاستكشاف العوامل الجينية التي تتحكم بتطوّر الوجه، وقابليتها لاستخدام تلك الأدوات الجينية المختلفة بدون معوقات مقارنة مع أنواع أخرى.

تعد آليات تشكل الوجه واحدة لدى جميع الفقاريات حتى مع اختلاف الشكل النهائي، فعلى سبيل المثال أثناء تكوُّن الأجنة لدى الثدييات يحدث التقاء البروز الجبهي الأنفي Frontonasal prominence مع الهلال العصبي الوجهي Cranial neural crest لتكوين الحنك الصلب mammalian hard palate بنفس الطريقة التي تتكون بها الصفيحة الغربالية ethmoid plate لدى أجنة الأسماك، والسبب في ذلك هو أنَّ شبكة الجينات المنظمة لعملية تكوُّن الوجه في كلٍّ من الأسماك والثدييات وجميع الفقاريات الأخرى واحدة مع اختلافات بسيطة في التفاصيل.
عرّف العلماء الكثير من الجينات المساهمة في تشوّهات الوجه والمتلازمات من خلال استخدام تقنيات جينيّة سريعة وعالية الإنتاجية، وقد حدَّدت هذه التقنيات الطفرات المسببة للحالات المنتشرة والنادرة مثل اضطرابات الحَنَك والشفّة الأرنبية cleft palate إذ بدأ العلماء برؤية قائمة نامية من الجينات، والتي تختلف مساهماتها في الأمراض المتعددة، ويتم العمل الآن على حل الآلية التي تنتج هذه التشوّهات الفردية.
كأمثلة على ذلك:
- تتسبب طفرات في الجين المُكَوِّد لعامل تنظيم الانترفيرون رقم 6 Interferon regulatory factor 6 (IRF6) في حالة تعرف بمتلازمة فاندروود Van der Woude syndrome، ونلفت إلى أنَّ هذه المتلازمة مسؤولة عن حوالي 70% من حالات الشفة الأرنبية. ويعد IRF6 مسؤولاً عن التحكم في عملية تكويد جينات أخرى مسؤولة عن تكوين الأنسجة الطلائية Epithelial tissues في الفم والجلد ويتسبب أي خطأ في تكوينه إلى اضطراب آليَّة عمله وعمل تلك الجينات المسؤول عنها بشكل غير سليم.
- في حالات الشقوق الوجهية غير المرتبطة بمتلازمة Non Syndromic Orofacial Clefts (والتي تشمل الشفة الأرنبية وانشقاق الحنك) تتداخل عوامل جينية وبيئية متعددة، ولكن بدراسة حالات متعددة من خلفيات عرقية مختلفة، لوحظ أنَّ الجين FOXE1 الموجود على الصبغي رقم 9 لدى الإنسان له دور كبير في مثل هذة الحالات، إذ أنه مسؤول عن التحام بروز الفك العلوي Maxillary process بالنتوء الأنفي الوسطي Medial nasal process أثناء تكوُّن وجه الجنين، وعند حدوث طفرات في هذا الجين لا تحدث عملية الالتحام هذة بشكل سليم.
- لطالما كانت قدرة خلايا الهلال العصبي الوجهي على الانتظام بأشكال مختلفة تعطي للوجه شكله المميز أثناء مرحلة تكون الجنين غير مفهومة، ولكننا بدأنا نفهمها مؤخراً إذ تشكل البروتينات المرتبطة بالحمض النووي الصبغي DNA داخل نواة الخلية والمعروفة بالهستونات Histones رقماً صعباً في فهم كيفية عمل الجينات، فهي تؤثرعلى شكل الحمض النووي الصبغي DNA في الفراغ، وعلى طريقة طيه بشكل يسهِّل من عمل جينات ويعطل عمل جينات أخرى حسب موقعها (تحدثنا عن هذة النقطة بتفاصيل أكثر في مقالنا السابق: ماذا تعرف عن علم التَخَلٌقْ؟ ). وجد هنا أن الهستون 3 له دور هام في تلك المسألة، وأنَّ مجموعة من التفاعلات المعقدة بين هذا الهستون والجينات التي يغلفها والبيئة المحيطة قد تسبب تغيرات في شكل الوجه لدى جميع الفقاريات. وباستحداث تغيرات في تركيب هذا الهستون لدى سمكة الزرد، لوحظ مرونة مذهلة لدى خلايا الهلال العصبي الوجهي أثناء المرحلة الجنينية، وهذا يؤدِّي إلى تغيرات كبرى في الناتج النهائي.
أظهرت دراسة التنوع الوجهي أنّ كثرة الوجوه الإنسانية تحتمل تنوّع أكثر من الوجوه لدى باقي الحيوانات، وحتى أكثر من أعضاء جسم الإنسان الأخرى. ومن الممكن أن يتوقَّعَ العلماء وجه الشخص من خلال الجينوم الخاص به ومن خلال فهم الاختلافات الصغيرة الأساسية في جينات الوجه. وستتيح لنا هذه التقنية القدرة على إنشاء وجه الشخص من خلال الحمض النووي الصبغي DNA في أماكن الجرائم (تحدثنا عن هذة النقطة بتفاصيل أكثر في مقالنا السابق أداة جديدة تسمح بالتنبؤ بلون قزحية العين والشعر والبشرة لشخص مجهول! )، أو من عِظام أجدادِنا القديمين، أو حتى للطفل غير المولود بعد. ولكن كل هذه التطبيقات لها أبعاد أخلاقية ومجتمعية يجب أخذها بعين الإعتبار.
يحدث التقدم القوي والأساس في المعرفة في هذا المجال في حقل دراسة جينات الجمجمة Craniofacial genetics، ويتوقَّع القائمون على هذه المجموعة المتميزة من الأبحاث أن يستمرَّ هذا البحثُ بالتقدم بشكل كبير. وكذلك تسعى مجلة PLOS Genetics إلى تضمين هذه الاكتشافات العلمية من خلال نشر هذه المجموعة وتقديم فهم للجينات حول المعلومات الوجهيّة بغية إفادة العامّة من هذه الاكتشافات.
المصادر:
- إعداد: محمد يامين.
- مراجعة: محمد علي.
- تدقيق لغوي: هنادي نصرالله.