في غضون أيام من الآن، فإنّ القمر سيدخل في طور البدر، ولكن الخسوف الكلي حينها سيحوله إلى دائرةٍ من الظل ذات لونٍ دمويٍّ داكن لمعظم الراصدين على سطح المعمورة في حدث فلكيّ نادر الحدوث والتكرار نسبياً.
مع حلول الخسوف سيكون أكثر من نصف الكوكب على موعدٍ مع لحظةٍ لرصد الحدث الفلكي مباشرةً حينها، بالطبع ستكون فرصة كبيرة لرصد مشهدين مذهلين مجتمعين في نفس الوقت، وذلك بما يُتعارف عليه باسم “super blood moon eclipse” وهو اسم غير علمي تماماً، لكنه الرائج، وسنفسر الأسماء فيما بعد.
أما عن أين ومتى يتم رصده؟ فإنْ كنت تعيش في أيٍّ من الأمريكيتين، فقد أوصلتك الصدفة بنجاح لمركز مشاهدة الخسوف تماماً، فالقارتان الصديقتان أكثر أجزاء الكوكب قدرة على رصد الخسوف ورؤيته بوضوحٍ كامل ولأطول فترة ممكنة؛ فما دامت السماء صافية أو حتى خالية من السحب الثقيلة؛ فإنه مع وصول الساعة 7:15 مساءً وإلى الساعة 10:45 من مساء يوم 20 يناير القادم بتوقيت المحيط الهادئ، فإنّك سترى القمر ممسوحاً باللون البرتقالي الداكن أو الأحمر الدموي في مشهدٍ قد نألفه إذا ما كانت أعيننا تطالع القمر دورياً.
أما أولئك اللذين يعيشون في غرب أوروبا أو إفريقيا؛ فسيكون حظهم أقل هذه المرة؛ حيث سيتمكنون من رؤية جزء من الخسوف وليس الخسوف كاملاً، ذلك الجزء سيكون في بداية الخسوف أو في نهايته، وذلك حسب موقعهم بالضبط في قاراتهم، وهنا خريطة تشرح بالتفاصيل قدرة كل منطقة على الرصد، فإذا كنت في منطقةٍ متاخمة للمحيط الهادئ، فسيكون يوم 21 يناير هو اليوم المناسب للرصد.

بالطبع لا يمتلك الجميع الصبر لمتابعة السماء والقمر وخسوفه لمدة ثلاث ساعات ونصف متواصلة، فإنْ كنت ممن يملّون سريعاً، فكل ما عليك فعله هو الخروج إلى مكانٍ مفتوح نحو القمر قرابة الساعة 9:15 مساءً بتوقيت المحيط الهادئ أو الساعة 5:15 فجراً وفقاً للتوقيت العالمي المنسق UTC من يوم 21 يناير.
وللأسف في حال كنت من أهل قارتي آسيا أو أستراليا، صراحةً لن تحق لك الشكوى من انعدام رؤية القمر هذه المرة، فأنت بالفعل قد حصلت على جرعةٍ فلكيةٍ تاريخيةٍ مع آخر خسوف كلي للقمر منذ نهاية يناير الماضي، وهي ظاهرة القمر الأزرق الدموي العملاق، في حدثٍ شديد الندرة يتكرر كل 150 عاماً تقريباً.
وبعيداً عن المسمى الفانتازي هذا، فإنّ “خسوف القمر الدموي الكامل” ما هو إلا دخول القمر في طور البدر؛ وبسبب اصطفافه هو والأرض والشمس في خط مستقيم واحد تقريباً، فإنّ ضوء الشمس يتشتت وينعكس بسبب الأرض ولا يصل للقمر، فتخف شدة إضـائته ويظهر بهذا اللون الداكن.
إنّ الخسوف القمري من أجمل الأحداث الفلكية المتكررة نسبياً، وعلى خلاف مع معظم الأحداث الفلكية فهو سهلُ المتابعة والرصد، فلا يحتاج منك إلا النظر لأعلى تجاه القمر بعينك المجردة لتراه جلياً أمامك، وبشكلٍ عام فإنّ الخسوف يتكرر من مرتين إلى خمس مرات تقريباً مع نهاية كلّ عام ميلادي واحد، لذلك نتوقع تكرار المشهد خلال العام مرة أخرى كما حدث العام الماضي في يونيو 2018م بعد الخسوف الأول في يناير لنفس العام ولكن بالطبع سيكون خسوفاً جزئياً وليس كاملاً كما تلك المرة.

والحقُّ يقال، هذا لن يكون خسوفاً عادياً؛ حيث أنّ الرفيق المنير لكوكبنا هذا في نقطة الـ “perigee” وهي تعني أقرب نقطة يصل لها القمر إلى الأرض، أمّا خفافيش الليل المحبين للسهر الطويل ورصد المشاهد الفلكية، ستكون فرصة لا يجب تفويتها أبداً.
وأيّاً كان شعورك تجاه الحدث نفسه، فبالتأكيد وقعٌ اسمه “الخسوف الدموي الكامل” يبدو مخيفاً كمسميات بعض أفلام هوليود ذات الطابع المرعب، لكنه مجرد اسم أتى بالأصل من اللون الذي يظهر به القمر في ذلك الحين، أما الحقيقة فإنّ المسمى له جذور وخلفيات حضارية وتاريخية متعددة ومعقدة فعلاً، فهناك الكثير من الأساطير التي تدور حول معنى تغيّر لون القمر إلى هذا اللون الداكن المخيف بالنسبة للشعوب القديمة؛ وبسبب ذلك ربطه القدماء بإشارات كونية عن وصول الحروب والمجاعات والجفاف، تماماً كما كانوا يفسروا رؤية الشهب في السماء.
لقد خاف البشر من قديم الأزل من رؤية القمر يتغير لونه بتلك الطريقة، ومع تكرار هذا التغير جعلوه تفسيراً للأحداث المكروهة في حياتهم، وبالمناسبة فإنّ تلك الفرضية تم إعادة دعمها مؤخراً بواسطة اثنين من القساوسة المسيحيين، لكن تلك المرة مشيرين إلى أربعة توالياً (أي ليس مجرد خسوف واحد) سواءً أًعجبت بتلك التفسيرات المتشائمة أم لا، فحتى في عصرنا الحاضر لم يختلف الأمر بالنسبة للبعض كثيراً، فمثلا كتاب “Four Blood Moons” الذي نُشر في عام 2013م، كتب فيه المؤلف “John Hagee” (وهو قسيس مهتم بالتفسيرات الفلكية) نبوءة عن حلول نهاية العالم والتي تتزامن مع هذا الحدث الفلكي لرباعية الخسوف القمري.
بنفس الطريقة تأتي فكرة الـ “supermoon” وهو اسم ليس له أيّ زاويا علمية كذلك، فمنذ حوالي الأربعين عاماً، ادعى الفلكي “ريتشارد نوليلي” بأنّ القمر حين يصل لأقرب نقطة له إلى الأرض، فسيكون هناك آثار حادّة على الطقس.
لكن حقيقة الأمر فإنّ القمر يكون قد اقترب مقداراً لا يتعدى 2% من أبعد نقطة له عن الأرض، لذلك حتى وإنْ كان المسمى مثيراً فهذا لا يظهر على أرض الواقع أو على المشهد الذي يتلقاه المراقب من سطح الأرض، قد يكون الأمر محبطاً أنْ لا تجد ذلك الفارق الذي تخيلته بسبب الأسماء.
هذه الحقيقة المحبطة تنطبق تماماً على تأثير القمر على الأرض، فإنّ تلك الزيادة الطفيفة التي تحدث في الجاذبية بسبب اقتراب القمر، ليست بالقوة الكافية لتؤثر على الطقس ولا في حركات المد والجزر، ولا تسبب زلازلاً كما تشير النبوءات والتفسيرات القديمة، لذلك فإنّ الـ “supermoon” ليس كما تتخيله في مسماه.
والجدير بالذكر أنه دائماً ما كان للغة وطريقة الإلقاء سحرهما الخاص في التأثير على المستمعين في أيّ خطابٍ ما؛ وبناءً على ذلك ستجد مصدقين لتلك “الإشارات الإلهية” عن مستقبلٍ مخيفٍ لنا؛ ولكنْ أي جهة ستختار أنت في النهاية لتكون في صفها؟
نعتقد أنّه بعد قراءتك لذلك الشرح ستدعم الجهة ذات الأسس العلمية الصحيحة.
إنّ أقرب خسوف قمري كامل بعد الذي تحدثنا عنه هنا، سيكون في مايو 2021م، فهذا يؤجل الجدل حول النبوءات السلبية التي ترافق الخسوف حتى ذلك الوقت. لذلك، هل تترك تلك الفرصة!؟
- إعداد: مروان عاطف.
- مراجعة: مرح مسعود.
- تدقيق لغوي: أكرم عبود.