منذ مئة عام، قام فيزيائي ألماني مغمور يُدعى ألبرت آينشتاين بتقديم نظرية النسبية العامة للأكاديمية البروسية للعلوم. الجدير بالذكر أنه قبل هذه النظرية لم يكن هناك دافعٌ للعلماء للقيام بإعادة تصور لأساسيات الواقع من حولهم.
وكانت الفكرة الأساسية للنظرية والتي أظهرها أينشتاين في مجموعة من المعادلات الأنيقة و المُحكَمة تقول أن كوننا نشأ من نوعٍ من شبكة سحرية والتي تُعرف الآن باسم الزمكان.
روعة نظرية النسبية العامة لآينشتاين
ووفقاً لهذه النظرية فإن تركيب هذه الشبكة سيتم الكشفُ عنه في انحناء الضوء الموجود حول النجوم البعيدة.
في ذلك الوقت كانت تبدو هذه الفكرة مستحيلة، وبالنسبة للفيزيائيين فإنه كان معروفاً أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة. حتى جاءت ملاحظات عن كسوف الشمس الذي حدث في عام 1919 والتي كشفت أنهُ على نطاق كوني فإن الضوء يمكن بالفعل أن يكون منحنياً، وهكذا بين عشيةٍ وضُحاها أصبح العبقريّ آينشتاين نجماً.
وقيل أن آينشتاين قد أظهر لامبالاة حقيقية تجاه الأنباء التي أكّدت صحةَ نظريته، وعندما سُأل عن رد فعله في حالة عدم التحقق من صحة النظرية رد قائلاً:
“كنت سأشعر بالأسف تجاه الرب القدير، ولكن النظرية صحيحة”
والذي جعل أينشتاين مطمئناً إلى هذا الحكم القائل بصحة نظريته هو الأناقة الشديدة التي صاغ بها معادلاته، فكيف يمكن لشيء بهذا الإبداع أن يكون غيرَ صحيحٍ !
وقد صرّح العالم في فيزياء الكم بول ديراك برأيه في تلك النظرية الفيزيائية والتي تتقابل وجهاً لوجه مع توصيفاتهم الرياضيّة للطبيعة مستخدماً مقطعاً من قصيدة للشاعر جون كيتس يقول فيها :
“الجمال حقيقةٌ، والحقيقة دوماً جميلة”
فن العلم
لطالما كان البحث عن الجمال جزءً من تقاليد الفيزياء على مدى تاريخها الطويل؛ ومن هذا المنطلق جاءت النسبية العامة تتويجاً لمجموعة من الاهتمامات الجمالية منها التماثل والتجانس والتماسك والكمال، فكانت تلك الصفات بعضاً من الملامح المثالية لنظرية النسبية العامة.
فإذا كانت نظرية الكم تشبه مزج عصبيّ من موسيقى الجاز، فإن نظرية النسبية العامة شبيهة بموسيقى فالس الجليلة. وهكذا ونحنُ نحتفل بالذِكرىَ المئوية لنظرية النسبية العامة، يمكننا أن نحيي النظرية ليس فقط كرؤية علمية حالمة لكن أيضاً باعتبارها نصراً فنياً.
لكن ماذا نعني بكلمة ” فن” ؟
الكثير من الإجابات تم تقديمها لهذا السؤال والكثير أيضاً سيتم تقديمه، لكنّ أكثرها إثارةً كانت إجابة الشاعرة والرسامة ميرلي هاربر والتي أشارت الى أن:
“واجب الفنانين في كل مكان هو إضافة شيء من السحر للمشهد التصوري”
وعوضاً عن تعريف الفن بالوسائل والطرق المادية فإن هاربر تقوم بذلك بدراسة اجتماعية، فالفنانون يساهمون بطريقة خلّابة في خبراتنا العقلية.
قد لا يكون بالفعل من واجب العلماء جعلنا مفتونين بالمشاهد التصوّرية والمفاهيم التي نكوّنها، ولكنّ هذه واحدةٌ من الأهداف التي يمكنُ للعلوم تحقيقها، وليست هناك فكرة أكثر إبهاجاً من تلك التي طرحها أينشتاين، على الرغم من أنه أخبرنا بأنه لا يمكن أن يفهم نظريته أبداً أكثر من 12 شخص. وعلى الرغم من كثرة الأعمال الفنية التي شرحت مفاهيم النسبية العامة، فأنت لست مضطراً أبداً لفهم كل مبادئ النسبية لتكون متأثراً بها.

وبشكل عام تعطينا تلك النظرية فهماً جديداً وغريباً للجاذبية، ووفقاً لنظرية النسبية العامة فإن الكواكب والنجوم تقع داخل نطاق نوع من النسيج الكوني – الزمكان – الذي يتم توضيحه عادةً بتشبيهه بالترامبولين.
تخيل أن هناك كورة بولينج تم وضعها على المنطّة، ماذا سيحدث؟ بالطبع ستُسبب انخفاضاً في موضع سقوطها، وهذا تحديداً ما تفعله النجوم والكواكب لشبكة الزمكان، كما تقول النسبية العامة، فقط عليك تخيّل أن هذا السطح لديه أربع أبعاد وليس فقط اثنتان.
أما الآن، وبتطبيق مفهوم الزمكان على الكون بشكل كامل، مع الأخذ في الاعتبار تأثير جاذبية كل النجوم والمجرات داخله، يمكن للفيزيائيين استخدام معادلات أينشتاين لتحديد بنية الكون نفسه. حيث أنها تعطينا مخططاً واضحاً لهندسة الكون.
بدأ أينشتاين تأملاته بما أسماه فكر التجارب، والتي كان يخُلص منها إلى العديد من السيناريوهات، حيث كان يبدأها دوماً بسؤال ” ماذا لو ؟ ” تلك السيناريوهات التي ذهبت بتفكيره إلى اتجاهات جديدة لم يألفها من قبل. وقد أشاد عالمُنا أينشتاين بالقيمة العظيمة لهذه الطريقة الفكرية في قوله الشهير:
“الخيال أهم بكثير من المعرفة”
ونرى أن هذا القول يتفق مع القول الآخر المأثور و الذي ربما يؤيده العديدُ من الفنانين القائل بأن “المعرفة محدودة، ولكنّ الخيال يلُفُ العالم“.
ولكن من المعلوم أنه ما كان الخيال وحده لينتج هذه المجموعة من المعادلات والتي تم التأكدُ من دقتها على مستويات عدة، تلك المعادلات التي تحافظ اليوم على دقة الأقمار الصناعية المستخدمة في تحديد المواقع باستخدام GPS. وهكذا قام أينشتاين بلفت الانتباه لمنبعٍ آخر لا ينضبُ من الطاقة الخلّاقة ألا وهو الرياضيات.
وعندما حدث هذا؛ قام علماء الرياضيات بتطوير تقنيات هائلة لوصف الأسطح التي لا تتبع هندسة إقليدس، وأدرك أينشتاين بذلك أن بإمكانه تطبيق تلك الأدوات في الفضاء الفيزيائيّ باستخدام “الهندسة الريمانيّة” -نسبةً للعالم ريمان- حيث طوّر توصيف للكون يكون فيه الزمكان وكأنه غلافٌ ديناميكيّ بحيث يمكنه الانحناء والتقوس والانثناء وكأنهُ جسم ضخم !.
وعلى عكس ما كان عليه الكون النيوتوني -نسبة إلى نيوتن- من سكونٍ ورتابة؛ فإن كون أينشتاين عبارة عن منظر طبيعي في حالة تغير مستمر، تعصف به قوىَ جبّارة وتسكنهُ الوحوش، ومن بين هذه الوحوش، النجوم النابضة Pulsars التي تطلق نافورات عملاقة من الأشعة السينية والثقوب السوداء الآكلة للضوء، بينما نجد بداخل هوة أفق الحدث نسيج الزمكان ممزّق إرباً.
الجيدر بالذكر أنه من سمات الفنانين العِظام هي الدرجة التي يصلون بفنّهم إليها في إثارة المفكرين المبدعين. ومن هذا المنطلق، تحولت النسبية العامة لتشكّل مادة الحياة للخيال العلمي، لقد منحتنا النسبية العامة سلسلة من روائع الخيال العلمي ، مثل: سلسلة ” ستار تريك” الشهيرة، ورواية Contact للعالِم كارل ساجان ،بالإضافة إلى عددٍ آخر لا يُحصى من الروائع السردية.
كما أن العديد من الروايات الأخرى والمسرحيات وأيضاً إحدى سيمفونيات الموسيقيّ فيليب جلاس اعتمدت على هذه النظرية. وهكذا، في الوقت الذي تتزايد فيه الرغبة للربط بين عالميّ الفن والعلم، تذكرنا النسبية العامة بأنهُ هناك دوماً لمحةٌ فنية في العلم.
القفزات الإبداعية هنا تُساق إما عن طريق التكهنات الهزلية أو قوى المنطق التلقائية، وكردٍ على تكهنات الهندسة غير الإقليدية في القرن التاسع عشر أشار عالم الرياضيات جون بلايفير بقوله:
“لقد أصبحنا واعيين كيف يمكن لسبب آخر أن يذهب أبعد مما يجرؤ خيالنُا على الذهاب”
في النسبية العامة يمتزج العقل والخيال معاً ليؤلفا وحدةً متكاملة لا يمكن الوصولُ إليها بواحدةٍ منهما فقط.
مقطع من الفيلم الذي تم إنتاجه طبقاً لرواية كارل ساجان المعتمدة على النسبية العامة:
- ترجمة: محمد حبشي.
- تدقيق لغوي: سارة تركي.
Interstellar
مقال رهيييييب …..عنجد!!
مقال اكثر من رائع