in

تطور الألم

من منا لم يحرق يده بالمدفأة وهو صغير؟ وكم من مرة جرحنا فيها أصابعنا عن طريق الخطأ؟ وكم من عذاب كان صغيرًا أو كبيرًا عانيناه بسبب أذية جسدية تعرضنا لها عن طريق الخطأ!

ذاك الشعور المزعج والبغيض الذي قد يزداد ليصل لحد نستجدي فيه المسكنات حتى يغيب ما هو وما فائدته؟ ومن أين أتى؟

الألم هو ذلك الشعور المزعج المترافق مع أي أذية مباشرة أو حتى محتملة لأنسجة الجسم فما هو فعلًا؟

عند أي أذية لأي نسيج معصّب بتعصيب حسي في أجساد الحيوانات تقوم النهايات العصبية الألمية -والتي عتبة تنبيهها أعلى بشكل ملحوظ من باقي المستقبلات -في ذاك النسيج بالتنبه مرسلةً إشارات عصبية عبر المسالك الحسية عبر الأعصاب فالنخاع الشوكي لتصل إلى مركز الإحساس في الدماغ الذي يمثل المركز التحليلي حيث يقوم بتفسير هذه الإشارات وإعطائنا الشعور الموافق لها، الألم في حالتنا.

الجدير بالذكر أن الأذية لا يجب أن تكون دومًا مباشرة نتيجة تماس مع الجسم فمن الممكن أن نشعر بالألم من الأصوات العالية لا وبل حتى الإضاءة الشديدة يمكن أن تعطينا هذا الشعور. وقد يكون الألم حادًا نتيجة أذية حديثة وقد يكون مزمنًا نتيجة أذية قديمة.

لماذا نتألم؟

الألم رسالة قاسية بعض الشيء يرسلها جسمنا ليأمرنا بالابتعاد عما نفعل في الحال، لكن هل من داعٍ ليستمر الألم عدة ساعات أو عدة أيام حتى؟

في الواقع أجل بما أنّ هدف هذا الشعور هو الابتعاد عما يسببه ويهدد حياة الكائن فالإحساس يجب أن يكون قاسيًا حتى يحقق النتائج المرغوبة في الابتعاد عن مصدر الأذية وعدم الاقتراب منه مستقبلاً.

“من وجهة نظر داروينية، واضح ما يقوم به الألم، هو تحذير يقول لك: لا تقم بهذا مجددًا. فإذا أحرقت نفسك مرة، لن تقوم بإمساك فحم مشتعل مستقبلاً”

ريتشارد دوكنز

لكن مالفائدة من الألم المزمن الذي يدوم لأيام عوضاً عن أن يكون لحظياً؟ لماذا نشعر بالألم في أسفل ظهرنا دون أي سبب؟ كيف يساهم مثل هذا الإحساس المضلل في جعلنا أقوى؟ هل كان رجال الكهف الذين يعانون من ألم مزمن صيادين أفضل من غيرهم؟

في الواقع، لا يوجد أي خطأ في الألم الحاد الصغير المدة، حيث أنّه يحقق الهدف التطوري منه وهو إبعادنا عن مصدر الخطر، لكن وكما تبين لاحقاً فنحن نملك نظاماً يقوم بنقل الألم إلى مراحل متقدمة بشكل هادف، هذا النظام ليس إلا خطأً بيولوجياً.

هذا النظام هو نظام مقاومة العدوى والمعروف أيضاً باسم الجهاز المناعي!

يتكون هذا الجهاز من مليارات الخلايا المتمايزة–العدلات Neutrophils-التي تقف في وجه أي خمج أو أذية في الجسم حيث تهاجم مكان الإصابة بسرعة كبيرة لتهاجم الجراثيم التي سولّت نفسها لها أن تدخل إلى جسمك .. فتدمر العدلات بعض الأنسجة السليمة أثناء قيامها بذلك. مسببةً الألم لك وهذا لمصلحتك فمهما كان ألمك سيئاً إلا أنّ العدوى أسوأ بكثير.

يحدث نفس الأمر في الأذية العقيمة (غير المسببة بعامل ممرض أو جسم غريب) حيث تكون نتيجة رض أو زيادة ضغط على النسيج، إذ تقوم العدلات بمهاجمة النسيج المتأذي بالمليارات لتقتل الخلايا الموجودة في منطقة الأذية ومن ضمنها خلايانا!

لماذا تقوم العدلات بمهاجمة الأذيات العقيمة رغمّ أنّ مهمتها هي مكافحة العدوى!؟

الجواب على ذلك هو أنّ كلّ خلية من خلايانا هي خلية عدو إن صح التعبير، لأنه ومنذ زمن بعيد جداً تمت عملية تلاحم (تزاوج) بين كائنات عديدة الخلايا وبين البكتيريا جاعلةً كلّ خلية من خلايا جسمنا بكتيرية جزئياً، حيث أنّ الأعضاء الخلوية وخاصة الميتوكندريا (المتقدرات) هي أعضاء بكتيرية بالأساس تقوم بإنتاج الطاقة. لا بلّ إنّ المتقدرات لا تزال تحتفظ بحمضها النووي الخاص بها منذ القدم.

المشكلة العويصة التي تؤدي لاستجابة الجسم ضد نفسه هو أنّ جهازه المناعي تطور بمعزل عن هذه العضيات الموجودة داخل خلايانا فلا يحدث تعرض بينها وبين الجهاز المناعي الذي لا يتعامل مع العضيات إنّما مع الخلايا والذرات فقط!

فعندما تتأذى الخلية السليمة بسبب عقيم تخرج هذه العضيات إلى السائل المحيط بالخلايا وهذه هي الإشارة التي تدعو الخلايا المتعادلة للهجوم! فبرغم أن المتقدرات موجودة في أجسامنا لعدة مليارات من السنين لا تزال لهذه اللحظة جسماً غريباً في نظر جهازنا المناعي إذا ماتعرض للتماس المباشر معها.

إذاً فعند الإصابة بعدوى أو جسم غريب تقوم العدلات بمهاجمته ومهاجمة بعض الخلايا السليمة معه ممايؤدي إلى تحرر المتقدرات فتقوم العدلات بمهاجمتها هي أيضاً وهكذا مما يزيد الوضع سوءاً.

ومنه نجد، أنّه على عكس المتوقع كلّما ازدادت قوة جهازك المناعي ازداد ألمك!!

لماذا لم يتطور جهازنا المناعي متلافياً هذا الأمر؟

قد يكون الأمر بسيطاً، لكن ليس واضحاً فالشيء الوحيد الأسوأ من فرط نشاط الخلايا المناعية هو قلة نشاطها وبالتالي قلة قدرتها على مقاومة العوامل الممرضة الأمر هكذا أفضل رغم سوئه. كما أنّه وفي حال تطورنا وانخفضت استجابتنا المناعية فإن الانتخاب الطبيعي لن يسمح باستمرار هذا بسبب ماسيؤدي له من ضعف وتقليل فرص النجاة في مواجهة العوامل الممرضة.

وهذه الحالة ليست الوحيدة في عملية التطور فهناك العديد من المقايضات التي تمت خلال مسيرة تطورنا مختارةً خير الأشرين إن صح التعبير.

الأمر الذي يجب ذكره أنّ هذه الآلية الجزيئية للألم لكن يبقى المسيطر على هذه الأمور هو الدماغ فلا شعور بالألم دونه ودون السيالات القادمة نتيجة أذية الأنسجة سواء بسبب عامل خارجي أو بسبب فرط نشاط العدلات على النسج السليمة.

“الألم هو نتيجة لتطور دارويني يهدف إلى تحسين فرص البقاء لمن يعانون منه”

ريتشارد دوكنز

الألم ووفقاً لريتشارد دوكنز هو نتيجة الانتخاب الطبيعي، الذي هو عملية تراكمية تمر بعدة مراحل فما هي مراحل تطور الألم؟

تطور حساسية مستقبلات الخلايا واستجابتها للضرر.

تطور الاستجابة الموضعية عند حصول الألم أو توقعه.

الكائنات الأكثر تطوراً طوّرت استجابة معممة في الجسم.

تطور الخصائص المميزة: المستقبلات المتخصصة والنواقل العصبية، أحاسيس الألم الممكنة، رد الفعل السلوكي والتعلم.

أ) تشغيل جهاز الشعور بالألم يتضمن تفعيل أجزاء غير ضرورية في الدماغ.

أو

ب) المسارات في الدماغ التي كانت ضرورية سابقاً و أصبحت زائدة وغير ضرورية التفعيل.

كنتيجة لكلّ ما سبق نتج الشعور بالألم.

أ) الشعور لديه تأثيرات ضارة، سيختفي سريعاً.

أو

ب) الشعور ليس لديه أي فائدة سيختفي في نهاية المطاف.

أو

ج) الشعور لديه فوائد تطورية، من الأرجح أن يتطور أكثر.

الألم رغم ضراوته ورغم سوئه فإن الحياة بدونه مستحيلة! والحياة معه صعبة وقد تكون لا تطاق. فلتنعموا بحياة خالية من الألم جميعاً مع الحفاظ على قدرتكم على التألم وقت الحاجة.

Sources:

  • Photo by Thomas Hawk, CC via Flickr
  • إعداد: يزن الحريري.
  • مراجعة: لونا حامد.
  • تدقيق لغوي: محمد نور.

تعليق واحد

ضع تعليقك
  1. لم يتم التطرق للألم الغير جسماني “الألم اللفظي” “الألم الفكري”
    ممكن يكون أقسى من الألم الجسمي الألم الحسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هل يمكن مشاهدة التطور مخبرياً؟

ما هي الحمى التيفية؟