هذه الغربان الذكيّة جدًّا، تُخطّط لثلاث خطوات مسبقًا عند استخدام الأدوات!
انقلبَتْ معرفتي حول سلوك الحيوانات رأسًا على عقب في عام 2002 عندما شاهدت “بيتي” Betty، وهي غُراب من كاليدونيا الجديدة، تشكّل خطافاً من قطعة أسلاك، وتستخدمه لسحب إناء صغير يحوي لحمًا من داخل أنبوب علبة التجربة.
كان سلوك «بيتي» آسرًا للعلماء لأنّه بدا خلّاقًا للغاية، إذ لم تكن هنالك إجابةً واضحةً عن هذا التساؤل، لكنّ «بيتي» قد وجدت طريقة للإجابة. كيف لهذا الغُراب أن يستطيع التفكير، علمًا أنّ الغربان مفصولة عن البشر بمقدار 620 مليون سنة من التطوّر المستقل؟
سيساعد بحثنا الأخير -الذي نُشر في 10 شباط/فبراير- في الإجابة عن هذا السؤال.
إنّه يقدّم دليلًا قاطعًا أنّ غربان كاليدونيا الجديدة – مثل لاعب الشطرنج يفكرّ بعدّة خطوات مسبقًا قبل تحريك القطع – تستطيع التخطيط مسبقًا لسلسلةٍ سلوكية مكونة من ثلاث خطوات عندما تستخدام الأدوات لقضاء غرضٍ ما.
طيور حاذقة
خلال العشرين سنةً الماضية، أبدت غربان كاليدونيا الجديدة أنماط سلوكية متنوّعة تشير إلى أنّها قد تكون ذكية للغاية. لكنّ استحداث دليل قاطع لما يدور حقًّا في ذهن حيوان ما هو أمرٌ شائكٌ.
في عملٍ سابق، لقد اختبرنا الغربان بالتعامل مع مسائل تتطلّب سلاسل سلوكية أطول وأطول. لكن لكي نفهم حقًّا ما إذا كانت غربان كاليدونيا الجديدة تستطيع التخطيط لأداء هذه السلوكيات، علينا أن نميّز بين التخطيط المتّصل والتخطيط المُسبق.
يتضمّن التخطيط المتّصل وضعَ خطّة على أساسٍ لحظي ومتتابع (خطوة بعد خطوة). يمكن اعتباره أساسًا التخطيط على عجالة؛ تخطو خطوةً، ثمّ تقيّم التَبِعات، ومن ثمَّ تخطّط للخطوة القادمة.
أمّا التخطيط المُسبق فهو تخطيط حقيقي، فأنت تخطّط سلسلة من الخطوات مُسبقًا قبل الإقدام على تنفيذها مثلما تفكّر في خطوتَين أو ثلاثٍ قُدُمًا في لعبة الشطرنج، ومن ثمَّ تنفّذ تلك الخطوات.
بعد مضي 17 عامًا على سلوك «بيتي» المبهر وتشكيلها للخطاف المذكور سابقًا، وبفضل التقدّم الملحوظ في مهارة الترويض التي حقّقها ثلاثة من فريقنا: رومانا غروبر Romana Gruber، ومارتينا شييستل Martina Schiestl، وماركوس بوكل Markus Boeckle، فقد تمكنّا أخيرًا من تصميم تجربةٍ لاختبار مهارات التخطيط لدى الطيور.
حلّ مسائل معقّدة
قدّمنا مهمة صعبة إلى الغربان. كان عليها أن تستخدم عصا قصيرة لسحب حجر من أنبوب، ومن ثمّ استخدام هذا الحجر لتحرير منصة خاصة والحصول على اللحم، بينما عليها تجاهل أنبوب آخر يحتوي عصا طويلة.
يكمن التحدي بأنّ كلّ مرحلة من المسألة كانت مخفيّة عن المراحل الأُخرى بواسطة درع خشبي يمنع الغربان من رؤية أكثر من جزء واحد من المسألة في كلّ مرّة.

لجعل الأمور أصعب، بدّلنا أماكن الأنبوبَين عشوائيًّا خلال الاختبارات، لذا كان على الغربان أن تتذكّر أين رأت الأداة الصحيحة آخر مرّة.
وهذا يعني أنّه حين تتعامل الغربان مع المسألة، كان عليها أن تستحضر مكان العصا الطويلة والحجر واللحم ذهنيًّا، ثم تقوم وفقًا لذلك بتشكيل خطة لما يجب فعله بمجرّد أن تلتقط العصا القصيرة.
بالعودة إلى نوعي التخطيط، نلاحظ أن حلّ المسألة على أساس لحظي ومتتابع (بكلمات أُخرى التخطيط المتّصل) قد يؤدّي بالغربان إلى ارتكاب الأخطاء.
وبشكلٍ مفاجئ للغاية، أبلت بعض الغربان التي قدّمنا لها هذه المسألة بلاءً حسنًا. في الواقع أحد الغربان –الذي يُدعى ساتورن Saturn- لم يرتكب أيّ خطأ في هذا الاختبار.
تطوّر التخطيط
تُظهر هذه النتائج بأنّه يمكن لغربان كاليدونيا الجديدة أن تخطّط قُدُمًا ثلاثة أنماط سلوكية للمستقبل. في حين أنّها تشير إلى أنّ «بيتي» خطّطت سلوكياتها المتعلّقة بثني السلك.
إنّ تَبِعات هذه النتائج ستتخطّى حدود تفسير سلوكها.
لقد أثار هذا النوع من الغربان الكثير من الاهتمام حتّى الآن لأنّها تُعدّ من الأنواع البيولوجية النموذجية والمفيدة جدًّا لفهم تطوّر استخدام الأدوات، وتعني نتائجنا أنّه باستطاعتنا الآن استخدام هذه الطيور لفهم شيء أكثر أهميّة ألا وهو تطوّر التخطيط بحد ذاته.
التخطيط هو من أقوى القدرات المعرفية لدى البشر. فعند دمجه مع مهارة استخدامنا للأدوات، سمح لنا بالوصول إلى أقصى درجات الحضارة التي نتمتّع بها حاليًّا. هذا المزيج هو صُلب ما يعني أن تكون إنسانًا.
الآن نحن نعرف نوعًا آخر، وهو غراب يستخدم الأدوات، يعيش في جزيرة في المحيط الهادئ، يمكنه أيضًا الجمع بين هذه الإمكانيات. إنَّ فهم قصّة تلك الغربان، عن كيفيّة إتقانها لهذه المهارات، سيعلّمنا الكثير عن قصّتنا نحن البشر، حول سبب تطوّر قدرتنا على التفكير بالطريقة التي نقوم بها اليوم.
المصدر:
Science Alert
- ترجمة: رولان جعفر.
- مراجعة: مرح مسعود.
- تدقيق لغوي: رأفت فياض.
الغراب ذكائه مذكور في القرآن الكريم .. وكيف أنه دفن جثة أخيه