عثر الباحثون على أدلٍة تثبتُ أنّ الجهاز العصبي يتخلص من الذكريات بشكلٍ مستمر، مما يطرح فكرة أنّ النسيان هو الوضع المألوف في الدماغ.

توصلت البحوث التي ركزت على كيفية اكتساب الدماغ للمعلومات إلى نظرية تفيد بأنّ الذكريات قصيرة الأمد تكون مشفرة في الدماغ كأنماطٍ من النشاط بين الخلايا العصبية، بينما الذكريات طويلة الأمد تنعكس كتغيّر دائم في الاتصالات فيما بينها.
الكيفية التي ينسى بها الدماغ لم تحظَ بكثيرٍ من الاهتمام من قبل الباحثين في الذاكرة من قبل “مايكل أندرسون”- باحثٌ في الذاكرة من جامعة كامبريدج يدرس النسيان منذ التسعينات- يقول: “معظم الأحداث التي تجري في حياتي الآن، والتجربة الواعية التي أمر بها في هذه اللحظة، لن أستطيع تذكُرها على الغالب عندما أكون في سن الثمانين، من الغريب حقاً أنّ النسيان لم يؤخذْ بشكلٍ جدّي من قبل في مجال علم الأعصاب.”
يضيف “أوليفر هارد”- هو باحثٌ في جامعة ماكجيل في مونتريال: “من دون النسيان لم نكن لنمتلك أي ذاكرة على الإطلاق.” حيث يقول أننا إذا تذكرنا كل شيء، سنكون غير فعالين مطلقاً؛ لأنّ أدمغتنا ستكون مثقلة دائماً بفيض الذكريات، مشيراً إلى أنّ الناس يتذكرون تفاصيل يومهم جميعهاً -حتى المملة منها- في الليل ثُم ينسونها في الأيام والأسابيع اللاحقة.
يعتقد “هارد” أنّ السبب في ذلك هو أنّ الدماغ لا يعرف على الفور ما هو المهم وما هو غير المهم، لذا فهو يحاول أنْ يتذكر قدر المستطاع في البداية، وينسى بشكلٍ تدريجي معظم الأشياء، ويقول: “النسيان يعمل كمصفاة، حيث يصفي الذكريات التي يعتبرها الدماغ غير ضرورية.”
وأخيراً، بدأت التجارب في السنوات القليلة الماضية في توضيح طبيعة هذه المصفاة.
آثار الذكريات (Traces of Memories)
الذاكرة أمر معقد للعديد من الأسباب، ومن بينها أنّ جميع أنواع الكائنات الحية لديها ذكريات، من الرخويات البحرية والحشرات إلى الإنسان ومختلف الحيوانات التي تملك أدمغة معقدة، الاختلاف في عمل الذاكرة يتماشى مع الاختلاف في هيكل الجهاز العصب، بالإضافة إلى ذلك، حتى ضمن النوع الواحد، هناك أنواع مختلفة للذاكرة، سواء كانت متداخلة أو متركزة في مناطق مختلفة من الدماغ. على سبيل المثال، الذكريات المكتسبة حديثاً في الثدييات تعتمد في معظم الأحيان على الحصين (hippocampus)، في حين أنّ الذاكرة طويلة المدى تشمل مناطق في قشرة الدماغ، كما أنّ آليات عمل هذه الأنواع من الذاكرة تختلف أيضاً.

ومع كل هذا التنوع، تزايد التقدير للأشكال المختلفة للنسيان (الفقدان الوظيفي للذكريات)، وغالباً ما ركّزت النظريات السابقة حول النسيان على أنّه عملية سلبية نسبياً ناتجة عن انهيار أو صعوبة الوصول إلى الآثار المادية للذكريات، التي يطلق عليها العلماء اسم إنغرام (engrams)، هذه الإنغرامات هي عادة عبارة عن ترابط بين خلايا الدماغ التي تدفعهم إلى التوجه بطريقة معينة، النسيان قد يتضمن التحلل التلقائي للروابط بين الخلايا العصبية التي تحتوي الذاكرة، والموت العشوائي لهذه الخلايا، وفشل الأنظمة التي تساهم عادة في توطيد وتثبيت الذكريات الجديدة، وخسارة الترابط مع السياق وعوامل أخرى تجعل استرجاع ذكرى معينة أمراً صعباً.
أما الآن، يولي العلماء مزيداً من الاهتمام للآليات التي تمحي أو تخبئ بها هذه الإنغرامات باستمرار.
النسيان الفطري (Intrinsic Forgetting)
أحد أشكال النسيان النشط (active forgetting) تمّ التعرف عليه في سنة 2017م يدعى النسيان الفطري، ويتضمن مجموعة فرعية معينة من خلايا الدماغ، يطلق عليها “رونالد دافيس” و”يي جونغ” اللذان كتبا الأطروحة التي طرحت الفكرة اسم “الخلايا الناسية (forgetting cells)“، التي تحلل الإنغرامات في خلايا الذاكرة.
هذه الفكرة ظهرت بعد أنّ أعلن “دافيس”- وهو عالم أعصاب في معهد سكريبس للأبحاث في جوبيتر بولاية فلوريدا- وزملاؤه عن أنه بعد تعريض ذباب الفاكهة لصدمات كهربائية خفيفة ورائحة معينة في نفس الوقت، تعلم الذباب أنّ يتجنب هذه الرائحة.
نظر “دافيس” وزملاؤه إلى مجموعة معينة من العصبونات في أدمغة ذباب الفاكهة التي تطلق الدوبامين بشكل مستمر إلى الخلايا العصبية فطرية العصبون، و وجدوا أنّ الدوبامين يلعب دوراً هاماً في تشكيل ونسيان الخلايا على حد سواء، وبعد أنْ درب “دافيس” وزملاؤه الذباب، قاموا بمنع إفراز الدوبامين للخلايا العصبية فطرية العصبون ووجدوا أنّ الذاكرة بعد مرور ثلاث ساعات تضاعفت عما كانت عليه سابقاً.
التفسير الذي قدمه “دافيس” وفريقه هو أنّه بعد تكون ذكرى جديدة، آلية النسيان التي تعتمد على الدوبامين تبدأ بمحيها، ويعتقد “دافيس” أنّ هذا المحو يحصل لأنّ الخلايا تلغي التغير الهيكلي الذي صنع الإنغرام الخاص بهذه الذكرى.
الميل الطبيعي للخلايا يكون نحو العودة لما كانوا عليه قبل الذكرى، إلا إذا تمّ التعرف على الفكرة على أنها مهمة، عندها يُحتفظ بالإنغرام عبر عملية اندماج، وتُوازِن هذه العملية بين ما يتعلم وما ينسى.
يقول “دافيس”: “ربما قد صُمم الدماغ لينسى المعلومات.” فقد لاحظ أنّه في مكانٍ ما في الدماغ قد يكون هناك نوع من الحُكم الذي يخبر الدماغ أنْ يتجاوز عملية النسيان عندما يتعرف على شيءٍ يستحق أنْ يُتذكر على المدى الطويل.
نجح “جونج”-وهو عالم أعصاب في جامعة تسينغهوا في بكين- وفريقه في التلاعب في ذاكرة الفئران؛ حيث وجدوا في عام 2016م أنّ تثبيط بروتين معين يدعى “Rac1” في الخلايا العصبية للحصين يؤدي إلى ازدياد فترة الاحتفاظ بالمعلومات من أقل من 72 ساعة إلى ما لا يقل عن 120 ساعة في العديد من الحالات، وزيادة نشاط بروتين “Rac1” قلل مدة الاحتفاظ بالذكريات لأقل من 24 ساعة، كما أنّ هنالك عملٌ سابق قامت به مجموعة “جونغ” أظهر أنّ “Rac1” كان مشارك بشكل مشابه في عدة أشكال من النسيان في ذباب الفاكهة.
ناقش “دافيس” و”جونغ” في مراجعة مشتركة في 2017م ووجدوا أنّ كل النتائج تشير إلى أنّ العمليات الخلوية التي تعتمد على الدوبامين وبروتين “Rac1” محت باستمرار الذكريات المكونة حديثاً؛ حيث كتبوا: “من هذا المنظور، النسيان الذي يتم عبر آلية نسيان فطرية قد يكون الوضع الأساسي للدماغ، النسيان الفطري قد يعمل بشكل مزمن وبمستوى منخفض ليزيل ببطء كل ذكرى مكتسبة حديثاً بالرغم من أنّ تنظيم مدى قوته يتم عبر عوامل داخلية وخارجية.”
عصبونات جديدة وذكريات قديمة
عملية خلوية أخرى تبدو أنها تتسبب بشكلها الخاص من النسيان هي ولادة خلايا عصبية جديدة في الدماغ.
العلاقة بين تكوين الخلايا العصبية من جهة، والذاكرة والنسيان من جهة أخرى هي علاقة معقدة بعض الشيء فقد أظهرت دراسات سابقة أنّ تكوين الخلايا العصبية من الممكن أنْ يكون مهماً لتكوين ذكريات جديدة، وفي اختبارات أجريت على حيوانات المختبر، الأدوية التي تثبط تكوين الخلايا العصبية في الحصين تستطيع أنْ تعيق تكوين الذاكرة الجديدة، والأدوية التي تعزز تكوينها ساهمت في تعلّم مهامٍ جديدة إذا أُعطيت قبل عملية التعلم.
لكن التأثيرات على الذاكرة لم تكن إيجابية بالمطلق، كما اكتشف “بول فرانكلاند”- عالم أعصاب في جامعة تورنتو- ومستشفى الأطفال المرضى (Hospital for Sick Children) وزملاؤه خلال عملهم مع الفئران.
في تجربتهم، سمحوا في البداية للفئران أنْ ينشئوا ذكرى عبر تمرينهم على مهمة، وبعد عدة ساعات، زادوا مستوى تكوين الخلايا العصبية باستخدام الأدوية لاختبار ما إذا كان اندماج العصبونات الجديدة في الحصين سيؤثر على استقرار الذاكرة المخزنة مسبقاً، وعندما اختبر فريق فرانكلاند الفئران بعد شهر، كان استدعاؤهم للتمرين أسوأ بكثير من الفئران التي لم تتعرض إلى تعزيز تكوّن الخلايا العصبية لاحقاً.
يشتبه “فرانكلاند” أنّ تكوين العصبونات يستطيع أنْ يعقّد تحدي استرجاع الذكريات السابقة من الحصين، فإذا تداخلت الاتصالات العصبية المضافة مع الدارة التي تحمل الذكريات القديمة، قد تتسبب بتخريب الإنغرامات القديمة أو تصعّب الفصل بين الذكريات القديمة والحديثة، وقد شَبّه الأمر بتصليح الالكترونيات وقال: “إذا بدأت في تغيير الأسلاك الكهربائية في جهاز ما، أي معلومة محفوظة في الدارة قد تٌفقد.”
أحد الأدلة التي تدعم هذه النظرية جاء من عمل لاحق نشر في وقت سابق من عام 2018 وأظهر أنّ التأثير المؤذي الناتج عن تكوّن الخلايا العصبية في الحصين يكون أسوأ كلما كانت الذكريات أحدث، حيث تبدو الذكريات الأقدم بكثير غير متأثرة به، فَسّر “فرانكلاند” ذلك بأنّ الذكريات الأقدم أقل حساسية؛ لأنّ الدماغ يحوّل تدريجياً الذكريات المهمة من الحصين إلى القشرة الدماغية للتخزين طويل الأمد، إذاً يعد تشكّل العصبونات في الحصين أكثر تدميراً للذكريات منذ أسبوع بالمقارنة مع الذكريات التي تكونت قبل أشهر أو سنوات.
في الواقع، لاحظ “فرانكلاند” أنّ النسيان الناتج عن إعادة هيكلة الدارات في الحصين عبر تكوين خلايا عصبية جديدة يحدث بشكلٍ أبطأ من النسيان الفطري المعتمد على الدوبامين وبروتين “Rac1” الذي وجده “دافيس” و”يي”، ويستغرق تكوين الارتباطات بين الخلايا العصبية المكونة حديثاً ومساهمتها في عملية النسيان الجارية عدة أسابيع.
ماذا يحدث للذكريات المنسية؟
عندما يحصل النسيان بغض النظر عن الآلية فماذا يكون مصير هذه الذكريات المنسية؟ هل تمحى آثارها بالكامل؟ أم أنها تبقى على شكلٍ ما لنستطيع الوصول إليها؟
هناك مجموعة من الأجوبة والتي تنطبق على بعض أنواع الذاكرة على الأقل، نجدها في أعمال نشرت في السنة الماضية لـ “روبرت كالين-جاجمان” و”إيرينا كالين-جاجمان”- زوجان باحثان، يديران مختبراً لعلم الأعصاب السلوكية في جامعة الدومنيكان في ريفر فورست بولاية إلينوي- الثنائي اللذان درسا كيف يكوّن بزاق البحر الذكريات منذ عقدٍ من الزمن، حوّلا اهتمامهما نحو البيولوجيا العصبية المتعلقة بكيفية نسيان الحيوانات للذكريات.
في المرحلة الأولى من تجاربهم، عرّض الزوجان بزاق البحر لصدمات كهربائية طفيفة على أحد أطراف جسمها دون الآخر، مما علّمهم أنْ يظهروا ردّات فعل عكسية أكثر حدة على الطرف المدرّب من الجسم، ثم تركا البزاق يَنسى هذه الاستجابة المتعلمة في أسبوع من الراحة بحيث أنّ استجاباتهم تعود متماثلة مجدداً.
ثم نبّه العالمان بزاق البحر بجولة أخرى من الصدمات الكهربائية المتوسطة الشدة، بعد يومٍ من هذا التذكير، وجدا أنّ الطرف الذي كان مدرّب سابقاً تجاوب بشكلٍ أكبر من الطرف الآخر، هذا الاختلاف أوضح أنّ جزءاً من الذكرى استمر في دماغ هذا الحيوان، حيث يقول “روبرت”: “غيّرت الحيوانات سلوكها لأنّ الدماغ قام بتشفير التجربة المؤلمة السابقة، هذا يقترح أنّ هناك أجزاء من هذه الذكرى لا تزال موجودة في الطرف المدرب.”، مما يشير إلى أنّ هناك شيء كامن في الدماغ احتفظ بهذا الارتباط، حتى بعد أسبوع -الذي يعد مدة طويلة في دورة حياة بزاق البحر التي تكون سنة واحدة فقط- لم يعدْ الدماغ لما كان عليه قبل اكتسابه لهذه الذكرى، وتقول “إيرينا”: ” تدعم نتائجنا فكرة أنّ النسيان ليس فقط اضمحلالاً سلبياً للذكريات، وأنّه ليس هنالك شيء يُمحى بشكلٍ كامل”.
لمعرفة المزيد عمّا نجا من عملية النسيان، قام “باول” و”إيرينا” وزملاؤهما بدراسة التعبيرات الجينية في كلي طرفي أدمغة الحيوانات، موليين اهتماماً خاصاً بحوالي 1200 جين أظهرت أبحاث سابقة صلتهم في تخزين الذاكرة في بزاق البحر، إحدى عشر جيناً من هذه الجينات بقيت نشطة في أحد طرفي الدماغ دون الآخر، حتى بعد أنْ بدا أنّ الحيوانات لم تعدْ تتذكر الصدمات التي تعرضت لها.
السبب وراء بقاء الأحدى عشر جيناً نشطاً والوظيفة التي تؤديها هو أمر لا يزال مجهولا، ليس من المؤكد حتى ما إذا كان نشاطهم مرتبطاً مباشرة بالذكرى المنسية، ولمعرفة ذلك على العلماء أنْ يتلاعبوا بهم، ولكن احتمال ارتباط هذه الجينات بالذاكرة يشعل حماس “باول” و”إيرينا”، سواء كان الارتباط متعلقاً بالاحتفاظ بأجزاء من الإنغرامات أو في محيها.

ملاحظة مهمة أخرى وجداها “باول” و”إيرينا” هي ارتفاع في مستوى إنتاج بزاق البحر لـ “FMRFamide” وهو مركب عصبي يقوم في بزاق البحر بعمل مشابه للذي يقوم به “الدوبامين” في الثدييات.
إذا كان كذلك، فمن المحتمل أنّ إنتاج الـ “FMRFamide” يكون لتشويش الذكريات في عملية مشابهة لما وجده “دافيس” عن “الدوبامين” في النسيان الفطري في ذباب الفاكهة.
التلاعب بالذكريات
بالنسبة إلى “روبرت كالين-جاجمان” من المثير أنْ يبدو النسيان كعملية بيولوجية مثل الهضم والإخراج، لأنّ هذا يعني أنه من الممكن، ولو نظريا، أنْ يحفز باتجاه الأعلى أو الأسفل، وقد تكهن بحذر، أنه إذا ما انطبقت هذه الاكتشافات في الإنسان، سيكون العلماء قادرين على مساعدة الناس على نسيان الذكريات السيئة بسهولة وتذكر الجيدة منها لوقت أطول.
التلاعب في عملية النسيان قد يكون له فيما بعد تطبيقات في علاج الأمراض العصبية التنكسية مثل الزهايمر، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الانخفاض الإدراكي الذي يتسبب بنسيان مفرط عند كبار السن، كما يمكن أنْ يكون له فائدة في التخفيف من حدة الاضطرابات النفسية اللاحقة للصدمة، حيث يركز المرضى على أفكار معينة، يقول “فرانكلاند”: “إذا كان بإمكانك فهم كيف ينسى الدماغ، قد تتمكن من إضعاف هذه الذكريات المتكيفة بشكل سيء.” وأضاف أنّ التحكم بالنسيان قد يساهم في علاج الإدمان.
ويضيف “دافيس” إنّ الإمكانية الكامنة في التطبيقات المستقبلية قد تعتمد على فهم جميع آليات النسيان النشط، وتوقع أنّ هنالك العديد منها ما يزال مجهولاً للعلماء، وقبل أنْ تصل تطبيقات التحكم بالنسيان إلى التجارب، سيتعيّن عليهم أيضاً مواجهة الأخلاقيين.
يضيف “فرانكلاند”: “إنّ التحكم بالنسيان غالباً ما يكون خطيراً إذا كنا نتحدث عن إمكانية نسيان أشياء محددة، أما تناول دواء يشجع النسيان بشكل عام سيواجه معضلات أخلاقية أقل من وجهة نظري.”
- ترجمة: رند فتوح.
- مراجعة: داليا المتني.
- تدقيق لغوي: أكرم عبود.