in ,

ما هو الزمن؟ ولماذا يمضي نحو الأمام؟

تخيّل لو أنّ الزمنَ يعودُ إلى الوراء، عندها لأصبح الناس أصغر في العمر بدلاً من أن يصبحوا أكبر، وبعد أن يقضوا حياةً طويلةً وهم يستعيدون فيها طفولتهم تدريجيّاً وينسون كلّ شيءٍ تعلّموه، سينتهي بهم المطافُ كبريقٍ في عيون آبائهم.

هذا هو مفهومُ الزّمنِ كما قدّمه كاتبُ الخيالِ العلميّ فيليب ك. ديك Philip K Dick في إحدى رواياته. ولكن على عكس ما هو مُتَوقّع، فإنّ اتّجاهَ الزمن يُمثَّلُ أيضاً محطّ خلافٍ بين علماء الكونيّات.

وفي الوقتِ الذي نعتبرُ فيه وجودَ اتّجاهٍ مُعيّنٍ للزّمن من الأمور المُسَلَّم بها، فإنّ علماء الفيزياء يخالفوننا في الاعتقاد. إنّ مُعظم قوانين الطّبيعة معكوسةٌ زمنيّاً، بمعنى أنّها ستكون صالحةٌ للتّطبيق فيما لو كان الزّمنُ يعودُ إلى الوراء. إذاً لماذا يتحرك الزمن دائماً نحو الأمام؟ وهل سيبقى دائماً على هذه الحال؟

هل للزمن بداية؟

إنّ أيّ مفهوم عام للزمن يجب أن يرتكزَ بشكلٍ أساسيٍّ على تطوّر الكون بحدّ ذاته. فعندما تنظر إلى الكون، فسيكون ما تشاهده هو عبارةٌ عن أحداثٍ حصلت في الماضي، حيث أنّ الضّوء يحتاجُ زمناً كي يصلَ إلينا.
وفي الواقع، حتى أبسط الملاحظات يُمكنها أن تساعدَنا على فهم الزّمن الكوني، وعلى سبيل المثال نذكر حقيقةَ أنّ سماءَ الليلِ مُظلمة، فلو كان للكونِ ماضٍ وحجمٍ لا متناهيَين، لكانت سماءُ الليلِ ساطعةً تماماً، حيث سيعمُّ في أرجائها النورُ القادمُ من العدد اللامُتناهي من النُّجومِ في كونٍ موجود منذ الأزل.

واعتقد العلماء لفترة طويلة ــ من ضمنهم آلبرت آينشتاين ــ أنّ الكونَ ساكنٌ لا يتمدّد، وأنه ذو حجمٍ لا محدود. إلا أنّ عملياتِ الملاحظة قد بيّنت منذ ذلك الحينِ أنّ الكونَ في الواقعِ في حالةِ توسُّع، وبمعدلٍ متسارعٍ أيضاً. وهذا يعني أنّ الكون قد نشأ ــ ولا بد ــ انطلاقاً من وضعيّةٍ أكثر انضغاطاً في حادثةٍ نُطلق عليها الانفجار العظيم، ممّا يُشير إلى أنّ الزّمنَ له بالفعل بداية.

إذا عاينّا شُعاعاً ضوئياً قديماً بما فيه الكفاية، فقد يكون بوسعنا حتّى أن نرى بقايا إشعاع الانفجار العظيم إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وإدراكُ هذه الحقيقةِ كان الخطوة الأولى في تحديدِ عمرِ الكون.

ومع ذلك فثمّة هنالك عقبةٌ غير متوقعة، ألا وهي نظريّة النّسبيّةِ الخاصّةِ لآينشتاين والتي بيّنت أنّ الوقتَ مفهومٌ نسبيّ: فكُلّما ازدادت سرعةُ حركتك بالنسبة لي، بدا لك الزمن وكأنه يمر أبطأ مما يبدو بالنّسبة لي. لذلك في كوننا المتباعد المجرات، النجوم التي تدور، والكواكب المتأرجحة لها خاصياتها المختلفة بحسب سرعتها: كل شيء في الماضي، الحاضر أو المستقبل هو نسبيّ.

إذن، هل يوجد توقيتٌ عامٌّ وشاملُ يمكننا جميعاً أن نتّفق عليه؟

لقد تبيّن أنّه يوجدُ بالفعلِ زمنٌ كونيّ، ومردُّ ذلك إلى أنّ الكونَ يبدو متماثلاً بشكلٍ عام في جميعِ أرجائِه واتّجاهاته. وكلُّ ما علينا فعله كي نقيسَ هذا الزّمنُ هو تحديدُ خصائصَ إشعاعِ الخلفيّةِ الكونيّ. وقد استخدم علماءُ الكونيّاتِ ذلك لتحديدِ عمرِ الكون، وتبيّن أنّ عمرَه هو 13.799 مليار سنة.

سهم الزمن (اتجاه الزمن)

إذن حسبما تقدّم، فنحن نعلمُ أنّ الزمنَ قد بدأَ على الأغلب عند وقوعِ الانفجارِ العظيم، ولكن هناك سؤال لا ينفك يراود أذهاننا: ما هو مفهومُ الزمنِ بالضبط؟

كي نُحلّل عناصرَ هذا السؤال، فنحن بحاجةٍ للنّظر إلى الخصائصِ الأساسيّةِ للزّمانِ والمكان. فعلى مستوى البُعد المكاني، يمكنك التحرُّك باتجاه الأمام والخلف، والأشخاص الذين يذهبون إلى أعمالهم يفعلون ذلك كلّ يوم. ولكن الزمن مختلف لأنّ له اتجاهاً معيناً، حيث أنّك تتحرّك ضمن هذا البُعد دائماً نحوَ الأمام، ولا يُمكنكَ أبداً التّحرّك بشكلِ معاكس. إذن، لماذا يتّسم البُعدُ الزّمانيّ بهذه الميزة؟

تُمثِّل الإجابةُ على هذا السؤال إحدى معضلاتِ الفيزياء التي لم يتم حلّها حتى الآن. وحتّى نشرح لكم لماذا يكون الزمن بحدّ ذاتِه غير قابلٍ للسّيرِ بالاتجاه العكسي، فنحن بحاجةٍ للعثورِ على عمليّات تحدث في الطّبيعةِ وتكون هي الأخرى غير عكسيّة.

إحدى المفاهيم القليلة المشابهة لذلك في الفيزياء (وفي الحياة أيضاً!) هي أنّ الأشياء تميلُ لأن تصبح أقل انتظاماً مع مرورِ الوقت. ونستخدم لوصف ذلك إحدى الخواصّ الفيزيائيّة التي يُطلق عليها اسم الإنتروبي، وهي تدلُّ على مدى انتظام شيءٍ ما.

تخيّل لو أنّ لدينا صندوقاً يحوي غازاً ما، بحيث أنّ جزيئاته جميعها قد وُضعت مبدئياً في إحدى زواياه (وهي حالة منظّمة ومرتبة). مع مرور الوقت، سوف تسعى جزيئات الغاز بشكلٍ تلقائيّ إلى ملءِ كامل الصّندوق (أي أصبحت في حالة تبعثر أو حالة غير مرتبة). وإنّ محاولةَ إعادة الجزيئاتِ إلى حالةِ الانتظام السّابقة سيتطلب بذل طاقة. ومما تقدّم نجدُ أنّ هذه العمليّة غير عكسية، فهي تُشبه كسرَ بيضةٍ كي نعد طبق العجّة.

فبعد أن ينتشرَ مُحتوى البيضة ويملأ المقلاة، سيغدو من المستحيلِ أن نعيد البيضةِ إلى نفسِ الشّكلِ البيضويّ السّابق، والأمر نفسه ينطبقُ على الكون. فكُلّما تطوّر كوننا، ازداد مقدار الإنتروبي (العشوائية) الإجمالي.

لقد تبيّن أن استخدامَ مفهومِ الإنتروبي يُمثِّل طريقةً جيدةً جداً لتوضيحِ اتجاه الزّمن. وفي الوقت الذي يتراءى لنا فيه بأن الكون ينتظم أكثر مع مرورِ الوقت بدل أن يصبح أقل انتظاماً ــ لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكون كان في مراحله الُمبكّرة عبارة عن بحرٍ هائجٍ من كُتلِ الغاز السّاخنِ المُتوزّع بشكلٍ متجانسٍ نسبيّاً وتحوّل بعدها إلى نجومٍ وكواكب وبشر ومجموعة مقالات عن الزمن ــ فلا يزالُ من المحتملِ رغم ذلك أنّ الفوضى في كوننا آخذةً بالازدياد.

يعودُ السبب في ذلك إلى أن الجاذبية المرافقة للكتلِ الضخمة قد تجعل المادة في حالةٍ منتظمةٍ ظاهريّاً. ويحصلُ ذلك بالتّزامنِ مع ازديادِ درجةِ الفوضى التي يُعتقد أنّها قد حصلت أثناء اختبائِها بطريقةٍ ما ضمن حقول الثّقالة. لذلك فمن الممكن أن تكون درجةُ الفوضى آخذة بالازدياد رغم أنّنا لا نلاحظها.

ولكن إذا علمنا أن الطبيعة تميلُ لتفضيلِ حالة الفوضى، فما السّبب الذي جعل الكونَ يبدأُ انطلاقته بالأساس بمثل هذه الحالة المنظّمة؟ لا يزال الجواب على هذا السؤال مجهولاً. وقد ادّعى بعض الباحثين بأن الانفجار العظيم ربما لم يكن أصلاً هو بداية الزمن، فقد يكون هنالك في الواقع “أكوان متوازية” يسير فيها الزمن باتجاهاتٍ مختلفة.

هل سينتهي الزمن؟

إنّ وجود بداية للزمن أمرٌ مفروغٌ منه، أما معرفة ما إذا كان مصيرُ الزّمن هو الانتهاء فيعتمدُ على طبيعة الطّاقة المظلمة التي تسبّب اتساعَ الكونِ بوتيرةٍ متسارعة. فقد يتسبّب هذا المعدّل من التّوسُّع في تمزيق الكونِ تدريجيّاً، مما يجبرُه على الدّخول في عمليّةٍ تُسمّى التَّمزُّق الأعظم Big Rip، وقد تضمحلُّ الطّاقةُ المظلمةُ بدلاً من ذلك، مما يتسبّب بعكسِ الانفجار العظيم وجعلِ الكون ينتهي بما يسمى الانسحاق الشديد Big Crunch، أو ببساطة، قد يتمدّدُ الكونُ للأبد.

ولكن هل ستتسبّب أيٌّ من تلك السيناريوهات المستقبليّة في وضعٍ نهايةٍ للزّمن؟

حسناً، وفقاً للقواعد الغريبة لميكانيكا الكم، فإن الجزيئاتِ الصّغيرة العشوائيّة بإمكانها أن تنبثقَ في أيّ لحظةٍ من الخلاء، وهو الأمر المُلاحَظُ باستمرارٍ في تجارب الفيزياء الجُزَيئيّة. وقد ادّعى البعض بأن الطاقةَ المظلمةَ قد تُسبّب مثل هذه “التّذبذبات الكُمُوميّة” مؤديةً بذلك إلى نشوءِ انفجارٍ عظيمٍ جديد، مما يضعُ نهايةً لخطِّنا الزّمنيّ ويبدأُ زمنٌ جديد.
وبالرّغم من أنّ الكلام السّابقَ ينطوي على الكثيرِ من التّـخيّـل والتّأمُّل، عدا عن كونه غير محتمل إلى حدٍّ بعيد، فإن ما نعرفه حقَّ المعرفة هو أنّنا سوف نُحيط علماً بمصيرِ الكونِ فقط عندما نفهمُ المادةَ المظلمة.
إذن ما هي النّتيجةُ الأكثر احتمالاً ؟ إنّ الوقتَ وحده كفيلٌ بالإجابةِ على هذا السّؤال.

  • ترجمة: مناف جاسم.
  • مراجعة: بشار رمضان.
  • تدقيق لغوي: مروى بوسطه جي.

بواسطة مناف جاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

فريق من العلماء يطور أكبر محركات هوائية في العالم

العيش ضمن المجتمعات الفاسدة يشجع المرء على الكذب